الاختلاطيون المخلِّطون
توقف أبو أسامة، أخي عبدالعزيز قاسم، عند قولي إن فتيا الشيخ البراك (فتيا ذهبية)، فطلب شرحاً وتوضيحاً لكلام الشيخ، ومراده من تلك الفتيا – أيده الله ومتع به -.
نعم هي فتيا (ذهبية). لا بل هي أغلى من الذهب المصفَّى. ومن يقرؤها بعقلٍ واعٍ، وقلبٍ طاهرٍ، فلن يكون بحاجةٍ لمزيد شرحٍ وبيانٍ. لكنَّ العقول والقلوب المنكوبة، هي التي تحتاجُ إلى تنظيف، وصيانة، وإعادة صياغة كي ترجع سويةً تميز بين المعروف والمنكر.
ومع أن للشيخ البراك في ذمتي ديوناً كثيرةً، فقد أضفت إليها – بعد هذه الفتيا - قبلةَ امتنانٍ على جبينه الطاهر، ودعواتٍ بأن يمتع الله به، ويكثر في علماء المسلمين من أمثاله الناصحين الصادقين. فبقدر ما أنزعجُ حين أقرأ (تكفيراً) صادراً من غرٍّ أحمقَ جاهلٍ، فإني بالمقابل أسعدُ وآنسُ حين أقرأ لعالمٍ راسخٍ محنَّكٍ كلاماً عن حدود الإيمان ونواقضه. فمن عادةِ الراسخ المسدَّد إذا تكلم في هذا البابِ أن يجيء كلامه موزوناً رصيناً لا غلوَّ فيه ولا جفاء.
وفتيا الشيخ البراك من هذا النوع، وقد ذكرتنا بفتاوى الأئمة قبله : ابن عثيمين، ابن بازٍ، ابن إبراهيم... إلى آخر تلك السلسلة الذهبية المتصلة التي تنتظم في حلقاتها سائر أعلام الإسلام وأئمته العظام. بدءاً من الصحابة فالتابعين فأتباع التابعين، وأتباعهم عبر القرونِ إلى يومنا هذا.
لم يكن أولئك الأعلام يتحرَّزون من الكلام والفتيا في نواقض الإسلام وحدوده، بل كانوا يعدون هذا باباً من أهمِّ أبواب العلم وأجلها. إلى أن ابتليت الأمة بشيوخ (الآخر) الذين لم يدخروا وسعاً في إفهام الناس أن الحديثَ في باب الرِّدة كله من الشر المحضِ، سواء صدر من عالمٍ أو جاهلٍ، وسواءٌ وافق الكلامُ محله أو لم يوافق!
كما قلتُ من قبلُ: فتيا الشيخ لا تحتاجُ لشرحٍ وبيانٍ. والتكفير الموجود فيها لا يتعلق بالرجال والنساء المختلطين، بل هو موجهٌ أصالةً لمن يفتي بحل المخالطة وجوازها مهما تضمَّنت من انتهاكٍ للمحرَّمات المقطوع بها.
هكذا هي فتيا الشيخ أيده الله. وهذا معناها الظاهر.
فمبيح المحرمات القطعية، أعظم جرماً من مرتكبها، بل لا مقارنة بين الاثنين.
فشارب الخمرة عاصٍ يرجو رحمة الله.
أما مبيحها فكافرٌ مرتدٌ، ولو لم يذق في حياته قطرةَ خمرٍ.
لكن دعونا من هذا كله، فلدي أمرٌ لحظته أثناء متابعة تداعيات الفتيا الذهبية :
فقبل صدور فتيا الشيخ البراك ببضعةِ أيامٍ صدرت فتيا (تكفيرية) من الراحل شيخ الأزهر، محمد سيد طنطاوي، أعلن فيها تكفير من يسيء إلى أيِّ أحدٍ من صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم -.
ومع أن الفتيا خاطئة بنسبة (100%)، إلا أن وسائل الإعلام المسيَّسة تناقلتها بقبولٍ وارتياحٍ وطمأنينةٍ وسكينةٍ.
وبعد فتيا الشيخ البراك بأيامٍ، صدرت فتيا أخرى من رئيس جماعة "منهاج القرآن" المقيم بلندن، أعلن فيها أن "الانتحاريين" كفارٌ خارجون عن الإسلام. ومع أن هذه الفتيا – أيضاً - خاطئة بنسبة (100%) إلا أن وسائل الإعلام المدجَّنة المهجَّنة تناقلتها بالقبول الحسن، ولم تبدِ أيَّ تحفظٍ عليها.
أما فتيا الشيخ البراك التي تحملُ نسبةَ صحة تصل إلى (101%)، فما كان إعلام (الاختلاطيين) ليتركها تمرُّ دون إقامة معركةٍ عالميةٍ عليها.
ولعل هذا من جميل تدبير الله لعبده البراك، فقد تسببت تلك المعركة الإعلامية المفتعلة في نشر الفتيا على أوسع نطاقٍ، فجاء مفعولها بحمد الله أبلغ مما كان متوقعاً.
الجميل في هذا كله أن من أظهر خصال شيخنا البراك الثبات وقوة الشكيمة، فتلك الحملات الإعلامية لا تحرك فيه شعرةً واحدةً. ولقد ضحكت ملءَ فيَّ حين قرأت لمراسل صحيفة (خاشقجي) أنه طلب من الشيخ تصريحاً، فأجابه الشيخ: لا مزيد لديَّ على ما قرأتم. فالشيخ بهذا المسلك الذكيِّ فوَّت على صحافة التزوير فرصة العبث بكلامه.
وبالمناسبة فقد نسيتُ أن أستأذن الشيخ إبراهيم السكران في استعارة مصطلح (الاختلاطيين)، فقد راقتني هذه التسميةُ كثيراً، إذ هي لقبٌ مشتقٌّ يطابق أبرز أوصاف هؤلاء الذين تميزوا عن العقلاء الأسوياء حين سوَّغوا ما شهد العقل والنقل والواقعُ بفساده وضرره.
طيلة الأيام الماضية، كنت أتحاشى كتابة شيءٍ حول أولئك (الاختلاطيين) (المخلطين)، لأن كتابتي عن هؤلاء لن تكونَ هادئةً أبداً. فقناعتي التامة المستقرة أن الذي يبيح الاختلاط في المدارس الجامعات والوظائف -بالصورة التي يستنكرها البراك- هو بلا ريبٍ مصاب في عقله ودينه، بل وفي رجولته أيضاً!
هل هذه نظرةٌ إقصائية متطرفة ؟
ليكن الأمر كذلك... فالإقصاء حين يسلط على فكرة حمقاء يعدُّ منقبةً لا مثلبةً.
قد ألتمسُ عذراً لمن عاشَ ونشأ خارج هذه البلاد، فاعتادَت عينه منظراً يراهُ كل يومٍ، فصار لا يستنكر تلك المخالطة المنكرة التي تم تطبيعها قسراً في تلك المجتمعاتِ.
وقد أفهم أن فتاةً لم تجد وظيفةً إلا في بيئة مختلطة فتنازلت وقبلت بها كارهةً.
لكن الذي أعجزُ عن استيعابه أن يأتي من عاشَ ونشأ في بلدٍ لا يزال - في الجملةِ - محافظاً على الوضع الطبعي الموافق للدين والفطرة، ثم يرفع صوته بأن مخالطة بناته للشباب في المدارس والجامعات والوظائف مسألة "هامشية" لا تستحق الضجيج!! وأقبح من هذا شيخ سوءٍ وزورٍ يتحدث عن أن هذا الاختلاط "فيه خلافٌ"، أو أنه "مصطلح بدعي"!
وأقبحُ من الثلاثة ذو لحيةٍ يمارس التزوير بالحديث عن المخالطة في الطريق والطوافِ. فأيُّ قياسٍ وأي منطقٍ يتحدثُ به هذا الاختلاطيُّ المخلِّط؟!
لقد سمعنا بصديقِ دراسة، وسمعنا بزميل في العمل. لكنا لم نسمع يوماً بصديق طوافٍ، أو زميل شارعٍ!!
عقلي –أيها الأفاضل- لا يستوعب أن يصدر هذا الكلام ممن يحمل ذرة رجولة أو كرامةٍ. فضلاً عن علمٍ ومعرفةٍ.
عقلي لا يستوعب أن ينشأ رجلٌ في بيت يوجد فيه (مجلس رجال)، و(مجلس نساء)، ثم بعدما شابَ رأسه، انتكست فطرته، فأعلن على الملأ أنه لا يرى بأساً أن تصاحب زوجته صديقها الشاب، بشرط ألا يكون هناك خلوة!!
أحبتي...قائل هذا يستحق شيئاً واحداً لا أحب أن أسيء إلى أسماعكم بذكره.
رحم الله الشيخ سليمان الدويش....هذا كل ما أستطيع قوله.
بندر الشويقي.
25/3/1431هـ
من بريدي