العاشق والصليب!!
موسى بن محمد الزهراني
كاد يجنُّ من الفرح، و يطير من فرط السعادة؛ ولم تسعه ثيابه كما يقال؛ عندما سمع نبأ قبوله في البعثة الخارجية إلى فرنسا. كان يشعر أنه سيمتلك الدنيا ويصبح حديث مجالس قومه؛ وكلما اقترب موعد السفر، كلما شعر أنه أقبل على أبواب العصر الحديث التي ستفتح له آفاقاً يفوق بها أقرانه وأصحابه..
شيءٌ واحدٌ كان يؤرقه.. ويقضُ مضجعه.. كيف أترك مكة! سنين طوالاً وقد شغف بها فؤادي وترعرعت بين أوديتها، وشربت من مائها الحبيب من زمزم العذب، ما أنشز عظامي وكساها لحماً!؛ وأمي..أمي الغالية من سيرعاها في غيابي.. إخوتي يحبونها.. لكن ليس كحبي لها.. من سيوصلها من الحرم لتصلي فيه كل يوم كعادتها؟!.. أسئلة كثيرة.. لا جواب عليها. أزف الرحيل.. وحزم الحقائبَ؛ وحمل بيده التذاكرَ.. وودع أمَّـه وقبلَّ رأسها ويديها.. وودع إخوته وأخواته.. واشتبكت الدموعُ في الخدود.. وودع مكة المكرمة والمسجد الحرام.. وسافر والأسى يقطّع قلبه …
قدم إلى فرنسا بلادٍ لا عهد له بها.. صُعق عندما رأى النساء العاريات يملأن الشوارع بلا حياء.. وشعر بتفاهة المرأة لديهم.. وحقارتها وعاوده حنينٌ شديد إلى أرض الطهر والإيمان.. والستر والعفاف..
انتظم في دراسته.. وكانت الطامة الأخرى!! يقعد معه على مقاعد الدراسة.. بناتٌ مراهقاتٌ قد سترن نصف أجسادهن.. وأبحن النصف الآخر للناظرين!؛ كان يدخل قاعة الدرس ورأسه بين قدميه حياءً وخجلاً!! ولكنهم قديماً قالوا: كثرةُ الإمساس تُفقد الإحساس.. مرَّ زمنٌ عليه.. فإذا به يجد نفسه تألف تلك المناظر القذرة.. بل ويطلق لعينيه العنان ينظر إليهن.. فالتهب فؤاده.. وأصبح شغله الشاغل هو كيف سيحصل على ما يطفي نار شهوته.. وما أسرع ما كان!.
أتقن اللغة الفرنسية في أشهر يسيرة!! وكان مما شجعه على إتقانها رغبته في التحدث إليهن.. مرت الأشهر ثقيلةً عليه.. وشيئاً فشيئاً..وإذا به يقع في أسر إحداهن من ذوات الأعين الزرقاء! والعرب قالوا قديماً: زرقة العين قد تدل على الخبث..[1]..
ملكت عليه مشاعره في بلد الغربة.. فانساق وراءها وعشقها عشقاً جعله لا يعقل شيئاً.. ولا يشغله شيءٌ سواها.. فاستفاق ليلة على آخر قطرة نزلت من إيمانه على أعقاب تلك الفتاة.. فكاد يذهب عقله.. وتملكه البكاء حتى كاد يحرق جوفه.. ترأى له في أفق غرفته.. مكةُ.. والكعبةُ.. وأمُّه.. وبلاده الطيبة! احتقر نفسه وازدراها حتى همَّ بالانتحار! لكن الشيطانة لم تدعه.. رغم اعترافه لها بأنه مسلمٌ وأن هذا أمرٌ حرمه الإسلام؛ وهو نادمٌ على ما فعل.. إلاَّ أنها أوغلت في استدارجه إلى سهرة منتنةٍ أخرى.. فأخذته إلى منزلها.. وهناك رأى من هي أجمل منها من أخواتها أمام مرأى ومسمع من أبيها وأمها! لكنهم أناسٌ ليس في قاموسهم كلمة (العِرض) ولا يوجد تعريف لها عندهم.. لم يعد همُّه همَّ واحدٍ.. بل تشعبت به الطرق.. وتاهت به المسالك.. فتردى في مهاوي الردى.. وانزلقت قدمه إلى أوعر المهالك! ما استغاث بالله فما صرف الله عنه كيدهن؛ فصبا إليهن وكان من الجاهلين؛ تشبثن به يوماً.. ورجونه أن يرى معهن عبادتهن في الكنيسة في يوم (الأحد).. وليرى اعترافات المذنبين أمام القسيسين والرهبان!! وليسمع الغفران الذي يوزعه رهبانهم بالمجان! فذهب معهن كالمسحور..وقف على باب الكنيسة متردداً فجاءته إشارة ٌمن إحداهن.. أن افعل مثلما نفعل!! فنظر فإذا هن يُشرن إلى صدورهن بأيديهن في هيئة صليبٍ!.. فرفع يده وفعل التصليب! ثم دخل!!. رأى في الكنيسة ما يعلم الجاهل أنه باطل.. ولكن سبحان مقلب القلوب! أغرته سخافاتُ الرهبان، ومنحُهم لصكوك الغفران.. ولأنه فَقَدَ لذة الإيمان كما قال - صلى الله عليه وسلم - "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظُّلّة؛ فإذا أقلع رجع إليه [*]".. فقدْ أطلق أيضاً لخياله العنان.. وصدق ما يعتاده من توهمِ؛ فكانت القاضية.. جاءته إحداهن تمشي على استعلاء! تحمل بيدها علبة فاخرة من الكرستال؛ مطرزة بالذهب أو هكذا يبدو له.. فابتسمت له ابتسامة الليث الهزبر؛ الذي حذر من ابتسامته المتنبي فيما مضى..
إذا رأيت نيوب الليث بارزةً فلا تظنن أن الليث يبتسم
فلم يفهم!.. وأتبعتها بقُبلةٍ فاجرةٍ.. ثم قدّمت له تلك الهدية الفاخرة التي لم تكون سوى صليبٍ من الذهب الخالص!! وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة؛ أحاطت به بيدها فربطت الصليب في عنقه وأسدلته على صدره وأسدلت الستار على آخر فصل من فصول التغيير الذي بدأ بشهوةٍ قذرة؛ وانتهى بِردّةٍ وكفرٍ؛ نسأل الله السلامة والعافية!.
عاش سنين كئيبة.. حتى كلامه مع أهله في الهاتف فَقَدَ..أدبَه وروحانيته واحترامه الذي كانوا يعهدونه منه.. اقتربت الدراسة من نهايتها.. وحان موعد الرجوع.. الرجوع إلى مكة.. ويا لهول المصيبة.. أيخرج منها مسلماً ويعود إليها نصرانياً؟! وقد كان.. نزل في مطار جدة.. بلبس لم يعهده أهله [2].. وقلبٍ (أسود مرباداً كالكوز مجخياً.. لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً)[3].. عانق أمَّه ببرودٍ عجيبٍ.. رغم دموعِها.. وفرحةِ إخوته وأخواته.. إلاَّ أنه أصبح في وادٍ؛ وهم في وادٍ آخر.. أصبح بعد عودته منزوياً كئيباً حزيناً.. إما أنه يحادثُ فتياته بالهاتف أو يخرج لوحده في سيارته إلى حيث لا يعلم به أحدٌ.. لاحظ أهله عليه أنه لم يذهب إلى الحرم أبداً طيلة أيامه التي مكثها بعد عودته؛ ولفت أنظارهم عدم أدائه للصلاة.. فحدثوه برفق فثار في وجوههم وقال لهم:"كل واحد حر في تصرفاته.. الصلاة ليست بالقوة".. أما أمُّه فكانت تواري دموعها عنه وعن إخوته كثيراً وتعتزل في غرفتها تصلي وتدعو له بالهداية وتبكي حتى يُسمع نشيجُها من وراء الباب!!؛ دخلت أخته الصغرى عليه يوماً في غرفته..- وكان يحبها بشدة -.. وكانت تصغره بسنوات قليلة؛ وبينما كان مستلقياً على قفاه؛ مغمضاً عينيه؛ يسمع أغنيةً أعجميةً مزعجةً.. وقعت عيناها على سلسالٍ من ذهبٍ على صدره.. فأرادت مداعبته.. فقبضت بيدها عليه.. فصعقت عندما رأت في نهاية هذا السلسال صليب النصارى!! فصاحت وانفجرت بالبكاء.. فقفز وأغلق الباب.. وجلس معها مهدداً أياها.. إن هي أخبرت أحداً.. أنه سيفعل ويفعل! فأصبح في البيت كالبعير الأجرب.. كلٌ يتجنبه.
في يوم.. دخلت أمه عليه.. وقالت له:-
قم أوصلني بسيارتك! وكان لا يرد لها طلباً! فقام.. فلما ركبا في السيارة.. قال لها:- إلى أين!
قالت: إلى الحرم أصلي العشاء!؛ فيبست يداه على مقود السيارة.. وحاول الاعتذار وقد جف ريقُه في حلقه فألحّت عليه بشدة.. فذهب بها وكأنه يمشي على جمرٍ.. فلما وصل إلى الحرم.. قال لها بلهجة حادة.. انزلي أنت وصلّي.. وأنا سأنتظرك هنا!؛ فأخذت الأمُّ الحبيبة ترجوه وتتودد إليه ودموعها تتساقط على خدها..:-
"يا ولدي.. انزل معي.. واذكر الله.. عسى الله يهديك ويردك لدينك.. يا وليدي.. كلها دقائق تكسب فيها الأجر".. دون جدوى.. أصر على موقفه بعنادٍ عجيب.
فنزلت الأم.. وهي تبكي.. وقبع هو في السيارة.. أغلق زجاج الأبواب.. وأدخل شريطاً غنائياً (فرنسياً) في جهاز التسجيل.. وخفض من صوته.. وألقى برأسه إلى الخلف يستمع إليه.. قال:-
فما فجأني إلا صوتٌ عظيمٌ يشق سماءَ مكة وتردده جبالها.. إنه الأذان العذب الجميل؛ بصوت الشيخ / علي ملا.. الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد ألا إله إلا الله...
… فدخلني الرعبُ.. فأطفأت (المسجل) وذهلت.. وأنا أستمع إلى نداءٍ؛ كان آخرُ عهدي بسماعة قبل سنوات طويلة جداً؛ فوالله وبلا شعورٍ مني سالت دموعي على خديّ.. وامتدت يدي إلى صدري فقبضت على الصليب القذر؛ فانتزعته وقطعت سلساله بعنفٍ وحنق وتملكتني موجةٌ عارمة من البكاء لفت أنظار كل من مر بجواري في طريقه إلى الحرم. فنزلت من السيارة.. وركضت مسرعاً إلى (دورات المياه) فنزعت ثيابي واغتسلت.. ودخلت الحرم بعد غياب سبع سنواتٍ عنه وعن الإسلام!. فلما رأيت الكعبة سقطت على ركبتيّ من هول المنظر؛ ومن إجلال هذه الجموع الغفيرة الخاشعة التي تؤم المسجد الحرام؛ ومن رعب الموقف.. وأدركت مع الإمام ما بقي من الصلاة وأزعجت ببكائي كل من حولي.. وبعد الصلاة.. أخذ شابٌ بجواري يذكرني بالله ويهدّأ من روعي.. وأن الله يغفر الذنوب جميعاً ويتوب على من تاب.. شكرته ودعوت له بصوت مخنوق؛ وخرجت من الحرم ولا تكاد تحملني قدماي.. وصلت إلى سيارتي فوجدت أمي الحبيبة تنتظرني بجوارها وسجادتها بيدها.. فانهرت على أقدامها أقبلها وأبكي.. وهي تبكي وتمسح على رأسي بيدها الحنون برفق.. رفعت يديها إلى السماء.. وسمعتها تقول:_"يا رب لك الحمد.. يا رب لك الحمد.. يا رب ما خيبت دعاي.. ورجاي.. الحمد لله.. الحمد لله".. فتحت لها بابها وأدخلتها السيارة وانطلقنا إلى المنزل ولم أستطع أن أتحدث معها من كثرة البكاء.. إلاَّ أنني سمعتها تقول لي:_"يا وليدي.. والله ما جيت إلى الحرم إلاّ علشان أدعي لك.. يا وليدي.. والله ما نسيتك من دعاي ولا ليلة.. تكفى [4]! وأنا أمك لا تترك الصلاة علشان الله يوفقك في حياتي ويرحمك"
نظرت إليها وحاولت الرد فخنقتني العبرة فأوقفت سيارتي على جانب الطريق.. ووضعت يديّ على وجهي ورفعت صوتي بالبكاء وهي تهدؤني.. وتطمئنني.. حتى شعرت أنني أخرجت كل ما في صدري من همًّ وضيقٍ وكفرٍ!.. بعد عودتي إلى المنزل أحرقت كل ما لدي من كتب وأشرطة وهدايا وصورٍ للفاجرات.. ومزقت كل شيء يذكرني بتلك الأيام السوداء وهنا دخلت في صراعٍ مرير مع عذاب الضمير.. كيف رضيت لنفسك أن تزني؟ كيف استسلمت للنصرانيات الفاجرات؟ كيف دخلت الكنيسة؟ كيف سمحت لنفسك أن تكذّب الله وتلبس الصليب؟ والله يقول:_(وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) كيف؟ وكيف؟! أسئلة كثيرة أزعجتني.. لولا أن الله - تعالى - قيّض لي من يأخذ بيدي.. شيخاً جليل القدر.. من الشباب المخلصين؛ لازمني حتى أتممت حفظ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم في فترة قصيرة ولا يدعني ليلاً ولا نهاراً.. وأكثر ما جذبني إليه حسن خلقه وأدبه العظيم.. جزاه الله عني خيراً.. اللهم اقبلني فقد عدت إليك وقد قلت ياربنا في كتابك الكريم (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف)..وأنا يا رب انتهيت فاغفر لي ما قد سلف.. وقلت:_ (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).. وأنا يا رب قد أسرفت على نفسي في الذنوب كثيراً كثيراً.. ولا يغفر الذنوب إلاَّ أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم....
وبعد.. فالله - تعالى - يمهل عبده ولا يهمله؛ وربما بلغ بالعبدِ البُعْدُ عن ربه بُعداً لا يُرجى منه رجوعٌ؛ ولكن الله - جل وتعالى - عليمٌ حكيم ٌ؛ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذو الطول؛ لا إله إلا هو إليه المصير..
ما أجمل الرجوع إلى الله؛ وما ألذّ التوبة الصادقة؛ وما أحلم الله - تعالى -.. وما أحرانا معاشر الدعاة بتلمس أدواء الناس؛ ومحاولة إخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.. وبالحكمة والموعظة الحسنة والصبر العظيم وعدم ازدراء الناس؛ أو الشماتة بهم؛ أو استبعاد هدايتهم؛ فالله - سبحانه و تعالى - هو مقلب القلوب ومصرفها كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) وكان من دعاء الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك) رواه مسلم.. آمين..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- وليس على إطلاقه ولكن هكذا قالوا!!.
* - حديث صحيح رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة؛ وهو في صحيح الجامع 1/586
[2]- كان ذلك قبل سنوات عندما كان شبابنا يخجلون من لبس ملابس الكفار؛ ويرونها منافية للرجولة؛ أما اليوم؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
[3]- حديث صحيح رواه مسلم.
[4] - كلمة عامية ترجمتها (أرجوك).