خلق الذبابة
الدكتور احمد عدنان الجبوري
متخصص بجراحة الجملة العصبية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد
فَقد قالَ الخَلاق العليم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج : 73]
وإنه لتحدٍ عظيم من لَدنه عزَّ وَجَل !!
فَكَأنّه يقولُ لهم : قُلْ هاتوا علماءَكم وحكماءَكم فليجتمعوا ليخلقوا ذبابةً ولو واحدة . فإنّ ذلك مُعجِزَهم لا محالةً، وإن بينهُم وبين تحقيه بوناً شاسعاً لا يقدرونَ عليه مهما أوتوا من علمٍ وحيلةٍ ..
وقدْ اجتمعت العلماءُ من كلّ حدبٍ وصوبٍ وحاولوا خلقَ الذبابةِ دونَ أن يعلموا بهذا التحدي، فكانَ أولُ أمرهم هو معرفةُ كيفية خلق الذبابة أي كيف تستحيلُ البيضةُ بعد تسعة أيامٍ من تلقيحها إلى ذبابةٍ طنانةٍ طيّارةٍ بعدَ أن كانت بيضةٌ هامدةً جامدةً . فإنهم إن عرفوا ذلك فباستطاعتهم محاكاتِه فيصنعوا بيضةً ثم يخلقوا منها ذبابةً ؛ تماماً كما يفعل خالق الذبابَ وخالقَهُم !!
وها أنا أُخبرُكم بخبرِ هؤلاءِ العلماءِ وهم يدرسونَ خلقَ الذبابةِ وقدْ أَعياهُم الدرسُ وطالتْ بهم السنون ولمّا يحيطوا ببعضِ تفاصيل الخلقِ علماً ..
كانتْ البدايةُ من بيضةِ الذبابةِ فدرسوا شكلها ومكوناتها فتراءتْ لهم بيضةٌ لا تشبه ما نألفُهُ من البيضِ فهي مستطيلةٌ غيرَ مدحّاةٍ أشبه بثمرةِ البقلِ منها ببقيةِ البيضِ، وفي أحد طرَفيها نتوءٌ يُعرَفُ به مقدمَتُها من المؤخرةِ، وهي محاطةٌ بقشرةٍ قويةٍ لكنها رقيقةٌ تحفظها مما يحيطُ بها من مخاطرٍ . وفي وسطها نواةٌ واحدةٌ تحملُ نصفَ عدد الجينات (المادةُ الوراثيةُ) التي تحملها الذبابةُ.
وكان أولُ ما فعلوه أنهم أزالوا القشرةَ، فوجدوا فيها أمراً غريباً لم يفقهوه في بادئ الأمرِ، لكنهم عندما تابعوا الدرسَ والبحثَ، علموا حكمةَ وجودهِ وسببه . ذلك الأمرُ هو وجودُ جزئيات ذات شكل خاص تنتشر بمنطقةٍ محددةٍ من القشرةِ وتختفي من سواها فتخبر بذلك البيضة، إنّ ها هنا المقدمةُ فيجبُ أن يخلقُ الرأسُ، وإن هناك وسطُ البيضةِ فتكونُ البطنُ والصدرُ . وإنَّ هذه هي المؤخرةُ فتتكون الأطرافُ ولولا هذه الجزئيات لاضطربَ وضعُ الأعضاءِ ولمّا خُلقتْ الذبابة وأنّ مَثلها كمثلِ رجلٍ ركبَ البحرَ فما عاد يعرفُ مكانَه لولا أنه اهتدى بالنجومِ فعلم شمالَه من جنوبِه أو شرقَهَ من غربِهِ ... أمرٌ عجيبٌ !!؟
جزئياتٌ تُوضعُ في مكانٍ دقيقٍ محددٍ تَحَسُباً لأمرٍ سَيحدُثُ في المستقبلِ القريبِ وهو اهتداء الخلايا في داخل البيضة فتعلم أنها (أي الخلايا) في المقدمةِ فتستحيلُ إلى رأسٍ أو في الوسطِ أو المؤخرةِ فتستحيلُ إلى صدرٍ أو بَطنٍ، وسنأتي إلى تفصيل ذلك فيما بعد .
قلتُ أنّ البيضةَ فيها نصفُ العددِ من الجينات التي في الذبابةِ الناضجةِ . لكن ما أَنْ يدخل الحيوانُ المنويُ الذي يحملُ هو الأخر نصفَ العددِ من الجينات، حتى يكتملَ عددُ المادةِ الوراثيةِ وتتكون بذلك نواةٌ واحدةٌ هي أمشاج من نواةٍ الذكرِ (الحيمن) والأنثى (البيضة) . ثم تأخذْ هذه النواةُ بالانقسامِ فَتُكوّن من نفسها نوىً عديدة، حتى إذا ما تَراكمَت هذه (النَوى) في وسطِ البيضةِ بعدَ أربعة عشر انقساماً تتوقف فُجأة عن الانقسامِ، ثم تبدأ بتركِ وسط البيضة فتهاجرُ إلى محيطها ... ولا نعلمُ لماذا توقفت هذه (النوى) عن الانقسامِ بعدَ بضع عشرة مرة ؟! كما أننا لا نعلمُ ما الذي يدفعُ هذه (النوى) إلى الهجرةِ من الوسطِ إلى المحيطِ ؟! لكن نعلمُ أنّه لولا هاتين العَمليتين لما خُلقت الذبابةُ . فلو أنَّ (النَوى) استمرَّتْ بالتكاثرِ لَتَزاحَمَتْ وَتَدافعَتْ في البيضةِ، وَلتَحولتْ عند ذلك البيضةُ إلى كيسٍ من (النَوى) بدلاً من ذبابةٍ بأجنحةٍ وصدرٍ وبطنٍ وأرجلٍ . ولو أَنَّ (النَوى) لم تهاجرْ إلى محيطِ البيضةِ وعلمت كلُّ نواةٍ مكانها من البضةِ، لَما خُلقَت الذبابةُ كذلك، ثم أنّ هناك أمراً آخر جديرٌ بالذكر ؛ وهو أن (النَوى) لا يجوزُ لها أنْ تَترك وسطَ البيضةِ وتستقرُ في المحيطِ حسب قانون انتشارِ (النوى) في البيضةِ لولا أنَّ هناك قوة غيبية ساقَتْ هذه (النوى) وهَدَتها إلى مكانِها المناسب تمهيداً لما سيأتي بعدَ ذلك . ثم تَنشأ أغشيةٌ من داخلِ قشرةِ البيضةِ، فتعزل (النوى) بعضها عن بعضٍ فتتكونُ خلايا كاملةً (لا نوى فقط) متراصةً تحتَ قشرةِ البيضةِ .
وهذه العمليةُ هي في غايةِ الدقةِ والإتقانِ !! فلو أنَّ الأغشيةَ عَزلَتْ (النَوى) حالَ وصولَها تَحتَ القشرةِ لما تَسَنى لهذه (النوى) التعرّض لمدةٍ كافيةٍ للجزئيات الدالة، وبالتالي تَضلُّ مَكانَها ومَصيرها النهائي (رأس، بطن، صدر) . ولو أَنَّ هذه الأغشيةَ تأخّرَت عن موعدَها لتساوتْ تراكيز الجزئياتِ الدالة، أو لاختَفَتْ هذه الجزئياتُ ولضَلَّت (النوى) مكانها كذلك .
هكذا أَصبَحَتْ البيضةُ بعدَ تسعَ ساعاتٍ من الإخصابِ عبارةً عن قشرةٍ وطبقة واحدة من الخلايا تحتَ هذه القشرةِ . وعند ذلك تكونُ البيضةُ قد تحوّلَت إلى مرحلةٍ أخرى من الخلقِ وهي اليرقةُ، وفيها تتجلى الهدايةُ الربانيةُ وروعةُ الخلقِ بأبهى صورِها، حيثُ تظهرُ العشراتِ من الجزئياتِ الدالةُ بتراكيزٍ محددةٍ في مختلفِ مناطقِ اليرقةِ، فتعلمُ الخلايا من هذه الجزئياتِ مكانها من اليرقةِ، وبالتالي ما ستصيرُ إليه من جسمِ الذبابةِ . فمثلاً هناك جزئياتٌ يسمونها (hecabak) تتركز في المقدمةِ عندَ النفقِ ثم تختفي تدريجياً في المؤخرة . وعلى العكس من ذلك موقفُ جزيئاتُ (nanos) حيثُ يكثرُ وجودُها في مؤخرةِ البيضةِ ثمَّ تختفي تدريجياً في المقدمةِ .
أما جزيئاتُ (ganet) فتتكون بشريطين أحدُهما في المقدمةِ والآخرُ في المؤخرةِ وجزيئاتُ (curel) تكونُ على شكلِ شريطٍ في وسطِ اليرقةِ ... وهكذا عشراتٌ أُخرُ من الجزيئاتِ تنتشرُ هنا وهناك بشكلٍ دقيقٍ في كلِّ أنحاءِ اليرقةِ، لتستهدي بها الخلايا فتستحيلُ إلى أعضاءٍ تناسبْ مكانها .
ونعودُ فنقولُ : هي تماماً كعَلاماتِ الطرقِ أو كالنجومِ يستهدي بها المسافرُ حتى يصلُ إلى غايتهِ المنشودة . ولا تنتشرُ هذه الجزيئاتُ في مقدمةِ اليرقةِ أو المؤخرةِ فحَسْب، بلْ إنَّ هناك جزيئات تنتشرُ في ظهرِ اليرقةِ وتختفي من بطنِها مثلَ جزيئاتِ (dorzal) وبذلك تكونُ هناك علاماتٍ على طولِ البيضةِ وعرضِها، أي علاماتٍ ثلاثيةَ الأبعادِ حتى يأتي الخلقُ دقيقاً محكماً فيكونُ كلَّّ عضوٍ في مكانِه المناسبْ من جسمِ الذبابةِ ..بعدَ أنَّ تَستهدي خلايا الجنينِ بهذه الجزيئاتِ تأخذُ بالتكاثرِ والتَّشَكُل، فيحدثُ انبعاجٍ هنا وانتفاخٌ هناك فيتحولُ الجنينُ إلى مرحلةٍ أخرى منَ الخلقِ، وهي مرحلةُ الخادرةِ (pupa) ؛ وهي أشبهُ ما تكونُ بمرحلةِ المضغةِ من جنينِ الإنسانِ، فإنَّ فيها تخصراتِ في مناطقٍ وانتفاخاتٍ في أخرى مكونةً بذلك مقاطعَ عديدةٍ وهي لا تشبهُ الذبابةِ بأي شكلٍ من الأشكالِ . ثم تبقى هذه الخادرةُ ثلاثةَ أيامٍ يزدادُ فيها حجمُها، فتتميزُ مقاطعَها بشكلٍ أوضح . ثم بعدَ انقضاء هذه الأيام الثلاثةِ تأتي المرحلةُ الأخيرةِ من الخلقِ والتي تنتهي بخلقِ الذبابةِ، هذه المرحلة تسمى بمرحلةِ التحوّل (m e t a mophosis) أو مرحلةُ الانقلابِ .وفي هذه المرحلة تحيطُ الخادرةُ نفسها بقشرةٍ سميكةٍ ثم تموتُ بداخلها !! نعم تموتُ إلا من تجمعاتٍ صغيرةٍ من الخلايا هنا وهناك مبعثرةً في أشلاءِ الخادرةِ تسمى(الأقراصُ) . أمّا بقيةُ المخلوقِ فإلى موتٍ ورفاتٍ وأنقاضٍ . أما هذه التجمعاتُ الخلويةِ (الأقراصُ) فإن كلَّ واحدٍ منها سيُكَّون جزءاً من جسمِ الذبابةِ الناضجةِ، فأحدُ هذه الأقراصِ يستحيلُ الى عيونٍ، والآخرُ إلى أجنحةٍ، وآخرُ إلى صدرٍ أو, بطنٍ، وهكذا حتى تتحولُ كلُّ هذه الأقراصِ إلى عضوٍ كامل، عند ذلك يَتَفَتَّقُ الغشاءُ، فتخرجُ ذبابةٌ تامةُ الخلقِ طيارةٌ طنانة...
إنِّها معجزةً بكلِّ ما تحتويه هذه الكلمةُ من معانٍ ودلالاتٍ !! ولولا أنَّها تَحدثُ أمامَنا ونشاهدُها لأنكرناها لا مَحالةً . وأنَّها بِحقٍّ لمثالٍ للموتِ والنشورِ !! فهذه اليرقةُ مفعمةٌ بالحياةِ، ولا هَمَّ لها إلا التَعذي والزيادةُ في الحَجمِ . ثمَ فُجأةً تحيطُ نفسها بغلافٍ سميكٍ وكأنَّه القبرِ، ثمَّ تموتُ بداخلهِ إلا من بذورٍ منها، فتبعثُ الذبابةُ من هذه البذورِ !!، وهي لا تنسيه لا من قريب ولا من بعيد اليرقة التي جاءت منها.
ونحنُ من كلِّ هذه المجرياتِ لا نعلمُ لماذا ماتتْ اليرقةُ، ولا كيفَ خُلقتْ الذبابةُ من هذه التجمعاتِ . ولكن رغمَ ذلك فإنَّ معلوماتنا من خلقِ سائرِ الأحياءِ، حتى قال أحدُهم ((إننا عندما نتدارسُ خلقَ الذبابةِ فإنَّ بقيةَ علماءِ الحياةِ يحسدوننا على ما نعرفُه من خلقِ الذبابةِ ... أي يحسدونهم لا على علمٍ تامٍ كاملٍ بخلقِ الذبابةِ لكن عن رفاتٍ منَ العلمِ يخفي وراءَه أسئلةً كثيرةً عن خلقِ هذا الكائنِ الضعيفِ . وإنَّك لو عُدتَ إلى الآيةِ الكريمةِ آنفةَ الذكرِ لوجدتَ أنَّ فيها من التكريمِ للعلماءِ من البشرِ ما هو أكثرُ منُ تحديهم، فهم عاجزون عن فهم خلقِ الذبابةِ، بلْ خلقها !!
فأنه جلَّ شأنُه قدْ رَفعَ من مكانتهم حين تحداهم بالخلقِ في حين هم عاجزونَ عن إدراكِ أو فهم آليةَ الخلقِ .