بسم الله الرحمن الرحيم
في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كعبا فسأل عنه، فقيل انه مريض، فخرج يمشي حتى أتاه، فلما دخل عليه قال: أبشر يا كعب، فقالت له أمه: هنيئا لك الجنة يا كعب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من هذه المتألية على الله؟" قال: أمي. قال:" وما يدريك يا أم كعب، لعل كعبا قال ما لا يعنيه أو سمع ما لا يعنيه؟".
وقال صلى الله عليه وسلم:" العبادة تسعة أجزاء في الصمت، وجزء في الفرار من الناس".
وفي الحكمة: تسعة أعشار العبادة في الصمت.
وحكي أن مريم لما نذرت ألا تتكلم، وحبست لسانها لأجل الله تعالى، أطلق الله سبحانه وتعالى لسان صبي لا يعرف الخطاب، أنطقه الله لأجلها.
فمن حفظ لسانه لأجل الله تعالى في الدنيا، أطلق الله لسانه بالشهادة عند الموت ولقاء الله تعالى. ومن سرّح لسانه في أعراض المسلمين، واتبع عوراتهم أمسك الله لسانه عن الشهادة عند الموت.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه، كانت النار أولى به"
فلذلك كان الصّدّيق رضي الله عنه يضع فيه حجرا ليمنع نفسه عن الكلام.
وسأل معاذ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الأعمال أفضل، فأخرج لسانه، ووضع يده عليه.
وأوصى عليّ ابن أبي طالب عنه ولده الحسن، فقال له: أمسك عليك لسانك، فان تلاف المرء في منطقه.
وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوما، فقال: ان ربكم تعالى يقول: يا ابن آدم، لم تحرّض الناس على الخير، وتدع ذلك من نفسك؟ يا ابن آدم، لم تذكّر الناس وتنسى نفسك؟ يا ابن آدم، لم تدعوني وتفرّ مني؟ ان كان كما تقول، فاحبس لسانك، واذكر خطيئتك، واقعد في بيتك.
وفي صحائف ابراهيم عليه السلام: على العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه.
وعن مالك بن دينار رحمه الله تعالى أنه قال: اذا رأيت قساوة في قلبك، أو وهنا في بدنك، أو حرمانا في رزقك، فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك.
وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بنيّ، من رحم يرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يفعل الخير يغنم، ومن يفعل الشر يأثم، ومن لا يملك لسانه يندم.
وأنشدوا:
احفظ لسانك أيها الانسان لا يقتلنك انه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
ويقال: ان جميع الأعضاء تبكّر كل يوم للسان، وتقول له: ناشدتك الله تعالى أن تستقيم، فانك ان استقمت استقمنا، وان اعوججت اعوججنا.
وقال بعض الحكماء: احبس لسانك قبل أن يطول حبسك، وتتلف نفك، فلا شيء أولى بطول حبس من اللسان ليقصر على الصواب ويسرع الى الجواب.
قال بعض الحكماء: ترك فضول الكلام يثمر النطق بالحكمة، وترك فضول النظر يثمر الخشوع والخشية، وترك فضول الطعام يثمر حلاوة العبادة، وترك الضحك يثمر حلاوة الهيبة، وترك الرغبة في الحرام يثمر المحبة، وترك التجسس عن عيوب الناس يثمر صلاح العيوب، وترك التوهم في الله ينفي الشك والشرك والنفاق.
وأنشدوا:
الصمت نفع والكلام مضرة فلربّ صمت في الكلام شفاء
فاذا أردت من الكلام شفاء لسقام قلبك فالقرآن دواء
واعلم أن التجسس عن عيوب الناس، وتطلب مساوئهم، يبدي العورات، ويكشف المخبّآت.
وقد نهى الله عز وجل عن ذلك في كتابه العزيز بقوله:{ ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضا} الحجرات 12.
فاتق الله واشتغل بعيوبك عن عيوب الناس، ولا تكن كمثل الذباب الذي لا يعرج على المواضع السليمة من الجسد، ولا ينزل عليها، وانما يقع على القروح فيدميها.
فمن بحث عن مساوئ الناسن واتبع عوراتهم، واشتغل بعيب غيره، وترك عيبه، سلط الله تعالى عليه من يبحث في عيبه ومساوئه ليشهّرها، ويتبع عورته ويبديها وينشرها.
فالعاقل السعيد من نظر في عيبه، وشغل بذلك عن عيوب غيره، وعن كل شيء سوى الله تعالى.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن الله تعالى، أنه قال: يا موسى خمس كلمات ختمت بهن التوراة، فان عملت بهن، نفعك علم التوراة، وان لم تعمل بهنّ، لم ينفعك علم التوراة:
أولهنّ: يا موسى، كن واثقا برزقي المضمون لك ما لم تر خزائني نفدت.
الثانية: يا موسى، لا تخافنّ سلطان الأرض ما لم تر سلطاني زائلا.
والثالثة: يا موسى، لا تجسس عن عيب أحد ما لم تخل من العيوب.
الرابعة: يا موسى، لا تدعنّ محاربة الشيطان ما دام روحك في جسدك.
الخامسة: يا موسى، لا تأمن عقابي ولو رأيت نفسك في الجنة.
وقال: يا أخي، اياك أن تعيّر أحدا بما فيه، فاني أخشى أن يبتليك الله ويعافيه، ولا تستر على الفاجر الظاهر فجوره، ولا على من لا يستتر بالمعصية ويعلن بها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يرى امرؤ من أخيه عورة، فيسترها عليه الا أدخله الله الجنة".
وقال صلى الله عليه وسلم:" من أقال مسلما عثرته، أقال الله عثرته يوم القيامة" أبو داود 3460، ابن ماجه 2199.
ويقال ان أبا حنيفة رضي الله عنه كان يسكن بجواره شاب مولّع بشرب الخمر، فكان أبو حنيفة يسهر الليل على النظر في الكتب والقراءة، وكان بينه وبين الشاب جدار، فكان يشرب ويتمثل:
سأنشدهم اذا ما هم جفوني أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ويكثر التردد بهذا البيت، فكان أبو حنيفة يستأنس بكلامه.
فلما كان ذات ليلة، لم يسمع له أبو حنيفة حسا، فلما خرج لصلاة الصبح سأل عنه فقيل له: ان صاحب الشرطة لقاه مخمورا، فحمله الى السجن، فلما صلى أبو حنيفة، مضى الى منزل صاحب الشرطة، واستأذن عليه، واعلمه بنفسه، فخرج اليه صاحب الشرطة حافي القدمين، عاري الرأس، وقبّل يده، وقال: يا سيدي، وما بلغ من قدري حتى تأتيني الى منزلي؟ فقال أبو حنيفة: اني جئتك في قضية جار لي سجن الليلة، فقال: أشهدك يا سيدي أني أطلقته وجميع من سجن في تلك الليلة.
قال: وانصرف أبو حنيفة والرجل معه. ثم التفت اليه، وقال: هل ضيّعناك يا أخي، أم قمنا بحقك رعيا لقولك: أضاعوني وأي فتى اضاعوا؟ فقال: لا والله لم تضيّعني، بل رعيتني، جزاك الله عن الجوار خيرا، وأشهدك أني تائب لوجه الله تعالى.
قال: فلزم الامام، وعبد الله تعالى حتى أتاه اليقين.
.................................................. ..........
المرجع:كتاب بحر الدموع لإبن الجوزي
__________________