من منا في الأوساط العلمية لا يعرف الشيخ ابن عثيمين ؟ وهو الذي شاع علمه في الآفاق وشهد القاصي والداني بفضله وعلو مكانته .
وحيث أن سيرة هذا الشيخ الجليل وغيره من العلماء المخلصين الناصحين السائرين على نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم تعتبر حافزاً إيمانياً للتأسي بهم واقتفاء آثارهم والاستفادة من الدروس التي تزخر بها أيامهم فقد حاولنا بصفة مختصرة الكلام عن سيرته الذاتية رحمه الله .
الشيخ محمد بن عثيمين ذلك العالم الجليل والمربي الفاضل والقدوة الصالحة في العلم والزهد والصدق والإخلاص والتواضع والورع والفتوى .
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
اسمه ومولده
هو أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن العثيمين الوهيبي التميمي . .
كان مولده في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1348هـ ، في مدينة عنيزة – إحدى مدن القصيم – بالمملكة العربية السعودية .
نشأته العلمية
تعلم القرآن الكريم على يد جده من جهة أمه عبد الرحمن بن سليمان الدامغ – رحمه الله – ثم تعلم الكتابة وشيئاً من الأدب والحساب والتحق بإحدى المدارس وحفظ القرآن عن ظهر قلب في سن مبكرة
ولما أدرك ما أدرك من العلم في التوحيد والفقه والنحو جلس في حلقة شيخه فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي فدرس عليه في التفسير والحديث والتوحيد والفقه وأصوله والفرائض والنحو .
- ولما فتح المعهد العلمي بالرياض أشار عليه بعض إخوانه أن يلتحق به ، فأستأذن شيخه عبد الرحمن السعدي فأذن له ، فألتحق بالعهد العلمي في الرياض سنة 1372هـ وانتظم في الدراسة سنتين انتفع فيها بالعلماء الذين كانوا يدرسون في المعهد حينذاك ومنهم العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد والشيخ الأفريقي وغيرهم ( رحمهم الله ) .
- واتصل بسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز – رحمه الله – فقرأ عليه في المسجد من صحيح البخاري ومن رسائل شيخ الإسلام بن تيمية وانتفع منه في علم الحديث والنظر في آراء فقهاء المذاهب والمقارنة بينها ، ويعتبر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز شيخه الثاني في التحصيل والتأثر به .
- وتخرج من المعهد العلمي ثم تابع دراسته الجامعية إنتساباً حتى نال الشهادة الجامعية من جامعة
الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض .
جهوده ومجالات نشاطه العلمي
باشر التعليم منذ عام 1370هـ إلى آخر ليلة من شهر رمضان عام 1421هـ ( أكثر من نصف قرن ) رحمه الله رحمةً واسعة .
ويدرس باستخدام الهاتف داخل المملكة وخارجها عن طريق المراكز الإسلامية ويلقي المحاضرات العامة المباشرة والدروس في مساجد المملكة كلما ذهب لزيارة المناطق ، ويهتم بالجانب الوعظي الذي خصه بنصيب وافر من دروسه للعناية به وكان دائماً يكرر على الأسماع الآية الكريمة ( وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ ) ويقول : " والله لو كانت قلوبنا حية لكان لهذه الكلمة وقع في نفوسنا " ويعتني بتوجيه طلبة العلم وإرشادهم واستقطابهم والصبر على تعليمهم وتحمل أسئلتهم المتعددة والاهتمام بأمورهم ، ويلقي خطبه من مسجده في عنيزة وقد تميزت خطبه – رحمه الله – بتوضيح العبادات والمعاملات ومناسباتها للأحداث والمواسم فجاءت كلها مثمرة مجدية محققة للهدف الشرعي منها ، ويعقد اللقاءات العلمية المنتظمة والمجدولة الأسبوعية منها والشهرية والسنوية ويحرر الفتاوى التي كتب الله قبولها عند الناس فاطمأنوا لها ولإختياراته الفقهية وينشر عبر وسائل الإعلام من إذاعة وصحافة ، ومن خلال الأشرطة دروسه ومحاضراته وبرامجه العلمية عبر البرنامج الإذاعي المشهور - نور على الدرب – وغيره من البرامج وأخيراً توجت جهوده العلمية وخدمته العظيمة التي قدمها للناس في مؤلفاته العديدة ذات القيمة العلمية من كتب ورسائل وشروح للمتون العلمية طبقت شهرتها الأفاق وأقبل عليها طلبة العلم في أنحاء العالم وقد بلغت مؤلفاته أكثر من تسعين كتاب ورسالة ، ثم لا ننسى تلك الكنوز العلمية الثمينة المحفوظة في أشرطة الدروس والمحاضرات فإنها تقدر بالآف الساعات فقد بارك الله تعالى في وقت هذا العالم الجليل وعمره ، نسأل الله تعالى أن يجعل كل خطوة خطاها في تلك الجهود الخيرة النافعة في ميزان حسناته يوم القيامة .
وقد أخذت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية التي أنشئت عام 1422هـ على عاتقها مسؤولية العناية والاهتمام بهذا التراث الضخم الذي خلفه شيخنا رحمه الله تعالى على تحقيق ذلك الهدف السامي الذي ينشده الجميع لجعل ذلك العلم الغزير متاحاً للجميع في مختلف الوسائل بإذن الله تعالى وعونه وتوفيقه .
ملامح من مناقبه وصفاته الشخصية
كان الشيخ رحمه الله تعالى قدوة صالحة ونموذجاً حياً فلم يكن علمه مجرد دروس ومحاضرات تلقى على أسماع الطلبة وإنما كان مثالاً يحتذى في علمه وتواضعه وحلمه وزهده ونبل أخلاقه .
تميز بالحلم والصبر والجد والجدية في طلب العلم وتعليمه وتنظيم وقته والحفاظ على كل لحظة من عمره كان بعيداً عن التكلف وكان قمة في التواضع والأخلاق الكريمة والخصال الحميدة وكان بوجهه البشوش اجتماعياً يخالط الناس ويؤثر فيهم ويدخل السرور إلى قلوبهم تر السعادة تعلو محياه وهو يلقي درسه ومحاضراته – رحمة الله تعالى عليه - .
كان رحمه الله عطوفاً مع الشباب يستمع إليهم ويناقشهم ويمنحهم الوعظ والتوجيه بالرفق واللين والإقناع.
كان حريصاً على تطبيق السنة في جميع أموره .
ومن ورعه أنه كان كثير التثبت فيما يفتي ولا يتسرع في الفتوى قبل أن يظهر له الدليل فكان إذا أشكل عليه أمر من أمور الفتوى يقول : انتظر حتى أتأمل المسألة ، وغير ذلك من العبارات التي توحي بورعه وحرصه على التحرير الدقيق للمسائل الفقهية .
لم تفتر عزيمته في سبيل نشر العلم حتى أنه في رحلته العلاجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية قبل ستة أشهر من وفاته نظم العديد من المحاضرات في المراكز الإسلامية والتقى بجموع المسلمين من الأمريكيين وغيرهم ووعظهم وأرشدهم كما أمهم في صلاة الجمعة .
وكان يحمل هم الأمة الإسلامية وقضاياها في مشارق الأرض ومغاربها وقد واصل – رحمه الله تعالى – مسيرته التعليمية والدعوية بعد عودته من رحلته العلاجية فلم تمنعه شدة المرض من الاهتمام بالتوجيه والتدريس في الحرم المكي حتى قبل وفاته بأيام .
أصابه المرض فتلقى قضاء الله بنفس صابرة راضية محتسبة ،وقدم للناس نموذجاً حياً صالحاً يقتدى به لتعامل المؤمن مع المرض المضني ،نسأل تعالى أن يكون في هذا رفعة لمنزلته عند رب العالمين .
كان رحمه الله يستمع إلى شكاوي الناس ويقضي حاجتهم قدر استطاعته وقد خصص لهذا العمل الخيري وقتاً محدوداً في كل يوم لاستقبال هذه الأمور وكان يدعم جمعيات البر وجمعيات تحفيظ القرآن بل قد منَّ الله عليه ووفقه لجميع أبواب البر والخير ونفع الناس فكان شيخنا بحق مؤسسة اجتماعية وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وفاته رحمه الله
حزنت الأمة الإسلامية جميعها قبيل مغرب يوم الأربعاء الخامس من شهر شوال سنة 1421هـ بإعلان وفاة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية وأحس بوقع المصيبة كل بيت في كل مدينة وقرية وصار الناس يتبادلون التعازي في المساجد والأسواق والمجمعات وكل فرد يحس وكأن المصيبة مصيبته وحده ورفعت البرقيات لتعزية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز وصاحب السمو الملكي ولي العهد وصاحب السمو الملكي النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء – حفظهم الله – بفقيد البلاد وفقيد المسلمين جميعاً وأخذ البعض يتأمل ويتساءل عن سر هذه العظمة والمكانة الكبيرة والمحبة العظيمة التي أمتلكها ذلك الشيخ الجليل في قلوب الناس رجالاً ونساء صغاراً وكباراً ؟ امتلأت أعمدة الصحف والمجلات في الداخل والخارج شعراً ونثراً تعبر عن الأسى والحزن في فراق ذلك العالم الجليل فقيد البلاد والأمة الإسلامية – رحمه الله تعالى - .
إن القبول في قلوب الناس منة عظيمة من الله تعالى لمن يشاء من عباده ،وقد أجمعت القلوب على محبته وقبوله وإنا لنرجو الله سبحانه وتعالى متضرعين إليه أن يكون الشيخ ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحب الله العبد نادى جبريل أن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه ،فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض .
وخَلفَ – رحمه الله - من البنين هم عبد الله وعبد الر حمن وإبراهيم وعبد العزيز وعبد الرحيم ،جعل الله فيهم الخير والبركة والخلف الصالح .
وبوفاته فقدت البلاد والأمة الإسلامية علماً من أبرز علمائها وصلحاء رجالها الذين يذكروننا بسلفنا الصالح في عبادتهم ونهجهم وحبهم لنشر العلم ونفعهم لإخوانهم المسلمين .
نسأل الله تعالى أن يرحم شيخنا رحمة الأبرار ويسكنه فسيح جناته وأن يغفر له ويجزيه عما قدم للإسلام والمسلمين خيراً والحمد لله على قضائه وقدره وإنا لله وإنا إليه راجعون وصلى الله عليه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن أتبعه بإحسان إلى يوم الدين .
ملاحظة : -
المصدر مجلة ( المجد ) العدد الثالث صفر 1426هـ
محبكم في الله أبو الزبير