كتب تركي الدخيل مقال عنسفرته الى سويسرا وعن جمال مدنها ومطاعمها وثقافة شبها
فجاءه الرد من الكاتب عبدالرحمن الجوهري كالصاعقة
* * *
نحن يا تركي، مشغولون بما يكفينا، مشغولون بمآسينا، بأوجاعنا، نحنلا صيفية لدينا أصلا، ...كل عامنا صيف، إن لم يكن في درجة حرارة الجو، ففي درجةحرارة قلوبنا، ..لأننا منهكون، لأننا منهمكون، في البؤس، لأننا فقراء، لأننا في بلدطبقيٍ عنيف، لأننا يا تركي نقرأ صحافة أنت كاتب فيها، ونشاهد إعلاما، أنت أحد منيدّعي "إضاءاته"!..
لا شيء يمكنه ثنيُ شخص ما عن أن ينحط، إنْ أراد هو أن يصل إلى ذلك!..
نعم إنهاإرادة الانحطاط، إرادة ذاتية، انحرافية، طلبية، استجدائية أحيانا، دراسيةأحيانا.. أبكي .. أتخيّلُ عينا أبي حسن، الستينيّ الوحيد، الذي يسكن " صامطة " ويجيدالقراءة، . ضمن سياسات تعليم شامل وكامل بديع.. يقرأ أبو سعيد الوطن اليوم، مقالةالدخيل: " الأوربيون المتخلفون .." يااااااه، ويفكّر بعدها، كيف يشتري كيس رز مناسب،
لأطفال جوعى ، لا يفكرون بمغادرة القرية يا تركي الدخيل!..
نعم، القرية، "صامطة"،وليس جازان، وليس الجنوب، وليس السعودية، إنهم لا يحلمون بجدة، لأنها غير..! تركي، لنأنزل لمستوى أن أحكي عن جسدك الثقافي، ولا تآلفات إيلافك، ولا أميركانيتك، ولاالتزاماتك "السابقة"، وانفراطاتك اللاحقة، لا، أنت أقل من ذلك، وأنا، بالتأكيد أكبر، وأكثر،أيها المخذلّون من الأعراب.. تركي، في "قال غفر الله له"، أظنه يجيد أن يدعو اللهبالمغفرة قولا، لكنّه يجيد أن يعصي الله بالحرف فعلا .. تركي، الذين منحوك هذهالزاوية، لصحيفة، تتّشح بكونها شعبية، صحيفة المهمّشين من الوطن، صحيفةٌ يقرؤها منلا يقرؤون حتى، .. يلمحون صور التزاحم على مكاتب الضمان الاجتماعي، وجمعيات التعاقدالتعاوني، ومنحات طويل العمر يا تركي .. ويبحثون عن صورهم، في صفحات الحوادثوالجرائم، وصفقات الأسهم المزيفة، واكتتابات الوهم يا تركي .. هؤلاء يا تركي، لايهمّهم أين تقضي إجازاتك المباركة، ولا أسعار الفلل جنوب جنيف، ولا أشهر مطاعمزيورخ، ولا أجمل منتجعات الألب اللعين! هؤلاء الذين يبكون من أجل ارتفاعات أسعارالرز، وأسعار حديد بيوتهم الصدئة، هؤلاء لا يفكرون ببيروت، ولا القاهرة، ولا كازا،فما بالك بمدريد، وجنيف، وباريس، .. باريس التي تشمخ يا تركي، بأنّك تجوسها عشراتالمرات، وأطفالك، الذين هم نفس أطفال أبي حسن، لولا "العبريّة"، و"ظلمات"، والحظ ياتركي، وهم نفس أطفال أي أب سعودي يزور باريس بعائلته، ولكنّ الله لم يصبه بنقمةالتبجح، والتمشهر، والتمظهر السافل أمام العالمين!..
تركي، إنّ "وطنك" الذي تكتبفيه، تكتب به، وتزعم أنك تكتب له أيضا، مشغول عن أمسياتك الأوربية، وعن لياليصيفياتك ما بين مروج الأنهار، وأنهار المروج، مشغول بـ: نقل معلماته، بموارة جثامينخطوطه السريعة، بقضايا طلاقه، بمخالعاته، بمسياره، بسرقاته، بغلائه، بأسهمهالوهمية، بالفقر، بالطرق المعتورة، بالكهرباء المتهرئة، بالرز يا تركي، الرز، أكررلك، بالرز، الذي أضحى سعره ضعفا كاملا عما كان عليه قبل عام!..
إن آخر ما ينبغيأن يفكر فيه كاتب ذو ضمير، ذو إحساس وشعوريّ نبيل، أن يقول لمجموعة من الفقراءليثقفهم قليلا: لدي مليون ريال، وهو بالمناسبة يكفي لشراء خبز كثير جدا، أن يريهممليون ريال يملكها أبوه، بحجة أنه يريد أن يعلمهم معنى مليون، أن يريهم المال، وكيفيطغى الإنسان!..
إنها مرحلة ما، تصيب المرء أخريات نزوح عقله الراشد، ولو كانصغيرا، مرحلة استعراضية إشكالية، تجعله ينصّب من المجتمع أعينا لا تحدق إلا به،وآذانا لا تسمع إلا نديّ صوته، وقلوبا مرهفة بالتفكير فيه، .. مرحلة التعرّيالبجح، مرحلة باريس هليتون، ومرحلة مارلين مونرو، ومرحلة أنيس منصور، تجيء بالجسدأحيانا، بالقلم، بالوجاهة، وبالفكر أحيانا!..
مرحلة انتكاسة، هي ليست من صميمالخلق الإنساني الرفيع، ولا القويم، .. أن يقول إنسان ما، أنا اشتري شيكولاتتيالمفضلة من فرنسا، لأحافظ على صحتي، وصحة أبنائي، في وطن يشحذ خبزه من استراليا، كييستقر سعر الدقيق، وينام فقراؤه من غير ما أنين!..
تركي، أنا لا أشكّك فيمصداقيتك، في حسن نيتك، في أخلاقك، لا أملك ذلك، ولو ملكته ما فعلته، لأنك لا تهم،ولأني مهموم بأمور أخرى.. إنك حين تريد بكل حب، ووطنية، وطيبة، وإيمان، وخلق بلديرفيع، من رجال شرطتنا الذي أنهكتهم الشمس والديون والعوائل التي لا تصيّف بعيدا، ..أن يحتذوا بضباط سويسرا، وجنود باريس، ومجندات روما، في الابتسامة، والخلق،والأريحية، في البعد عن البيروقراطية، ..إنه جميل يا تركي، لكنه كمن يعوّد مريضابالسرطان، على الطيران بالمظلة ..
في جناح قسم الأورام، قبل عملية كيماويّ أخيرة، علىأمل أن يشفى، ويخرج، ويطير!..
نحن يا تركي، مشغولون بما يكفينا، مشغولون بمآسينا،بأوجاعنا، نحن لا صيفية لدينا أصلا، ..كل عامنا صيف، إن لم يكن في درجة حرارة الجو،ففي درجة حرارة قلوبنا، ..لأننا منهكون، لأننا منهمكون، في البؤس، لأننا فقراء،لأننا في بلد طبقيٍ عنيف، لأننا يا تركي نقرأ صحافة أنت كاتب فيها، ونشاهد إعلاما،أنت أحد من يدّعي "إضاءاته" !..
نحن مشغولون، بما يكفي، فلا تحرق قلوبنا بمتعاتكالرفاهية الباذخة، ولا برجوازيتك الساحقة، ولا أطفالك المدلّلين، ولا أسرتك المترفة ... لأن أبوحسن، في صامطة، سيبكي بصمت، وسيوراي دمعة ما، يوم يقول لمريم، فتاتهالعشرينية الكبرى، وهي تطلب منه أن يريهم هذه المروج الجميلة يا تركي،سيقول لها،وعيناه تندّان دمعا: "هذي يا بنتي بعيدة، بعيدة جدا، هذي يا مريومي، يمكن فيالجنة"!..
نعم، هنا، حيث كل الطرق، كل الديون، كل الضجر، كل الاستهبال، يؤديلصامطة، حيث صامطة، ستظل أبدا..صامتة؟!
عبدالرحمن الجوهري / كاتبسعودي