قُبْلَةٌ تحت تهديد السلاح
"إما الرقص أو رصاصة في الرأس شرف النساء شهِية جنود الحواجز الصهيونية "
الإنسانيّة والشّرف معانّ تخلو من جوهرها عند جنود وقفوا على حواجز الموت والقهر المقامة على مداخل مدن الضفة الغربية، جنود يتلذذون في اختراع أساليب الذّل والإهانة حتى تقبع عيون الفلسطينيات خلف النور وتقع قلوبُهن رهينة لمصائد الموت، موجوعة من آلام جرحت كرامتهنّ من الصّميم، واحتلت نفسَ الفتاةِ الفلسطينية المضّطرة للسير على تلك الحواجز من أجل الوصول إلى الجامعة كبرى مشاعر الحزن والأسى.
فكانت القصص المأساة التي روتها طالباتُ الجامعات بحرقة وبعيون تملؤها الدّموعُ الجارحة، وبقلوب يغمرها الخوفُ والرّعب لتعرّضهن لمختلف صنوف الإهانة تحت تهديد السّلاح والموت على تلك الحواجز.
قُبْلَةٌ تحت تهديد السلاح:
لم تدرك إحدى الطالبات أنها ستتعرض لأسوأ يوم في حياتها، ولم تتمكن من نسيانه أبدًا، فوصولها إلى الجامعة بعد رحلة من المعاناة الشّاقة عرّضها لحدث رَوَتْهُ، وقد بدت ملامح الحزن والأسى على وجهها؛ فتقول: "ركبت السّيارة برفقة زميلاتي وتوجّهنا إلى الجامعة، وبعد معاناة شاقة ورحلة صعبة من العذاب وصلنا إلى حاجز احتلاليّ، وهناك حدث ما لم أتوقعه.. حدثت كارثة.. ومصيبة.
وتتابع حديثها " لقد قام جنود الاحتلال بإخراجنا من السّيارة، وطلب من الطّلاب الذين كانوا برفقتنا أن يقوموا بخلع ملابسهم أمامنا.
مر على ذلك بضع دقائق حتى جاء أحد الجنود وقد صبغ وجهه باللّون الأسود، اقترب من أحد الشباب قائلاً له: إذا أردت مغادرة الحاجز عليك أن تذهب وتُقَبّل زميلتك، وكان الاختيار قد وقع عليّ فصعق الشّاب من هذا الطّلب، واعتبرها إهانة كبيرة، فأجابه الجندي بعد الرّفض هذه الفتاة جميلة جداً، واستمر الشاب بالرفض، فما كان من الجنود إلاّ أن قاموا بضربه بعنف فخفت عليه كثيراً من شدّة الضرب ".
سكتت عن الكلام وسالت عبراتها على وجنتيها التي لم تستطع حبْسها داخل أعماقها وارتجف صوتها بتنهيدة عميقة خرجت من نفسها المجروحة، وتابعت مضيفة "في هذه اللحظة لا أدرى كيف امتلكت كل تلك الشجاعة، توجّهت نحو الشّاب وأنا أبكي بحرقة وأمسكت رأسه، كانت الدّماء تسيل من وجهه قلت له: يمكنك فعل ذلك.
بكى جميع الموجودين، وتتابع" كنت محرجة جداً، لكنني كنت مضطرّة! كيف قررت ذلك؟! لا أعرف. ولم أتخيّل نفسي أقبل بذلك، وعندما عُدْت إلى مسكني انطويت على نفسي كثيراً وفكرت بما حدث، وأصبحت في صراع مع نفسي استمرّ عدّة أيّام.
إما الرقص أو رصاصة في الرأس:
وصل الأمر إلى طلب المستحيل؛ ففتاة فلسطينية تمتلك جسدَها ولا تقدر السيطرة عليه لتعرضه أمام أعين القهر والذل بقلب يعتصر ألمًا وحزنًا. روت قصة لا يمحوها الزّمان وقعت على طالبة أخرى " لم أكن أتصور للحظة أن يأتي يوم في حياتي أُخَيّر فيه بين الرقص أو رصاصة في الرأس"؛ بهذه الكلمات المؤلمة بدأت تروي لنا مأساتها على أحد حواجز نابلس عندما طلب منها أحد الجنود بأن تصعد على الدبابة وترقص وإلا ستفقد حياتها وزميلاتها، فرفضت ذلك.
وتتابع " لقد تركت تلك الحادثة أثراً عميقاً في نفسي وتمنّيت حينها لو أن الأرض انشقّت وابتلعتني ولم يحصل ما حصل".
أما الطالبة "م. ع" فلم تكن أحسن حالاً من سابقتها؛ فقد وقعت في موقف لا تُحْسَد عليه، إذ طلب أحد الجنود منها ومن زميلاتها أن يخلعن جلابيبهن للتفتيش، وعندما قابلن طلبه بالرفض، فوجئن بالجندي يصعد على ظهر الدبابة وأخذ بخلع ملابسه القطعة تلو الأخرى فما كان من الطالبات إلا أن قمن بإنزال رؤوسهن خجلاً وحياءً من فعلته فرد عليهن الجندي بقوله: لماذا تخجلن مني، هكذا انظرن إليّ هنا.
وتقول" ما إن سمعنا ذلك حتى أصابنا الذهول مما رأيناه، والخوف من ذلك التصرف، وانتابنا شعور بأنه سيفعل شيئاً ما وتشير "م" بأنّ هذا الموقف جعلنا نشعر بمدى امتهان كرامة الإنسان الفلسطينيّ والاستهزاء بشرفنا وحيائنا، أحسَسْنا بأن قدومنا إلى الجامعة يبعثر كرامتنا في الأرض، وعندما قصَصْت على أهلي هذه القصة منعوني من الذهاب لمتابعة دراستي مدة أسبوع، وبعد محاولات عديدة، وتوسّل سمحوا لي بالعودة إلى الجامعة.
كوابيس في الليل:
من الطبيعي أن يحلم الإنسان عندما ينام، ولكن أن تتحول هذه الأحلام إلى كوابيسَ ملازمةٍ له في كل ليلة؛ فهذا من نتاج إرهاب إسرائيل، وهو ما حصل مع الطالبة "منال" التي أصبح النوم يشكل لها مصدراً للتعب والإزعاج.
في كل ليلة كما تروي "منال "أصحو في ساعة متأخرة من الليل، أرتجف وعلامات الخوف والفزع ترتسم على وجهي". وحول طبيعة الكوابيس تشير منال: "أرى في نومي أنني أتخطّى الحاجز وجنود يلاحقونني بالرصاص، كذلك هناك مشهد يتكرر كل ليلة، إذْ يذهب شابٌّ يتوسل للجنود من أجل السماح لنا بالمرور، لكنّ إجابة الجندي كانت رصاصة اخترقت عين الشّاب، هذا المنظر يلاحقني في نومي؛ فأرى عين الشاب تُفْقَأ في كل ليلة مما يشكل كابوساً فظيعاً لا يفارقني".
"أعيش بين نارين":
لا تنتهي المعاناة على حواجز الموت؛ بل تمتد لتشمل كافة مناحي الحياة؛ لتترك أثاراً سلبيّة على الأوضاع الاقتصاديّة والتعليميّة والاجتماعيّة، وآثاراً أصعب على الأوضاع النفسيّة لطالبات فرضت عليهن الظروف عنوة أن يعشْن واقعاً مريراً لم يكن في الحُسبان.
نيفين عطياني واحدة من بين مئات الطالبات اللواتي حُِِرْمن من رؤية أهلهن بسبب حواجز الاحتلال؛ فقد اضطرّت "نيفين" إلى السكن في مدينة نابلس حتى تتمكن من إكمال مسيرتها التعليميّة.
لم تبدأ مشكلتها لتنتهي بالسكن في مدينة نابلس؛ بل تبعتها تداعيات كثيرة مؤلمة، وهي كما تقول: أضطرّ نتيجة للظّروف الحاليّة إلى المكوث شهرين أو ثلاثة أشهر متتابعة دون رؤية أهلي، وعند زيارتهم بعد أن أكون قد اشتقت لهم كثيرًا، أشعر وكأنني أصبحت غريبة لدرجة أنني أشعر بالإحباط والاكتئاب نتيجة لذلك.
طالبة وأم في الوقت نفسه:
أصبحت غريبة عن ولدي، فلم تتغيّر ملامحُه عند رؤية وجهي وتنصبّ اهتماماته باللّعب مع الأولاد من الجيران؛ فحِرمانه من حِضْني وطَبْع قبلة على وجنتْيه أصعب أمر يمرّ على نفسي. وتقول إيمان: "كيف يمكن لطالبة تركت طفلها وحيداً أن تركز في دراستها وتعيش حياتها الجامعيّة بشكل طبيعيّ في مسكن جامعيّ؟!
هذا جزء من قصة معاناة تعيشها كلّ فلسطينيّة لسبب واحد وتهمة واحدة وهي:فلسطينيّتها وإسلاميّتها!.
عودة ودعوة