قواعد في الشكر
فرحان العطار
يقول الله عز وجل: ( و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) فلو مكث أحدنا عمره ليعد نعم الله عداً فقط بدون أن يشكرها فإنه لا يحصيها فمتى و كيف يشكرها ؟!
ونظراً لأهمية هذا الموضوع و تقصيرنا فيه، فالواجب أن يتكاتف الجميع بالحض و التذكير، و يتسابقون نحوه بالجد و التشمير، فالشكر عبادة جليلة قال الله عن أهلها ( و قليل من عبادي الشكور ) فهلا حدثت نفسك بأن تكون من هذا القليل ! لم لا ! و الله جل جلاله هو الغني الحميد، المستحق للحمد و الثناء و التمجيد - جل ثناؤه و تقدست أسماؤه .
لذا فقد جمعت هنا طائفة من الآيات و الآثار، و نتف من الأقاويل والأخبار، في شكل يسير و مبسط، ليسهل حفظها و تذكرها و تطبيقها بشكل عملي، علنا أن نشكر الله عز و جل بقدر ما نستطيع كما قال سليمان التيمي: إن الله أنعم على العباد على قدره ، وكلفهم الشكر على قدرهم ا.هـ.
القاعدة الأولى : الشكر قيد النعم .
فمن كان ذا مال أو صحة أو مكانة أو نحوها ، فليحطها بسياج الشكر، و ليدفع عن حياضها بسلاحه ، و ليعلم بأنها لن تبقى إذا لم يؤد حق الله فيها ، فإذا أردنا المحافظة على نعمة و بقاؤها ، فعلينا بالشكر فإنه " قيد النعم " كما قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله.
القاعدة الثانية : ( و لئن شكرتم لأزيدنكم ).
و هذا من فضل الله و رحمته ، فالشكر يحافظ على بقاء النعم ، ثم لا يكتفي بذلك فقط بل يزيدها ، فهل بعد هذا البيان عذر في التقصير ؟! أم هل هناك مبرر للتقاعس و عدم النفير ؟! فإن هذا مما يستنهض الهمم ، و يجعلها تعرف قدر عبادة الشكر و تقدره قدره.
قال ابن القيم : " والشكر معه المزيد أبدا لقوله تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر " ا.هـ فمن لم يلمس الزيادة في إيمانه و عبادته ، فليراجع نفسه ، و من لم ير البركة في ماله و عياله ، فليراجع نفسه ، فإن الله وعد الشاكر بالمزيد ، و الله لا يخلف الميعاد.
القاعدة الثالثة ً: احذر الاستدراج .
قال أبو حازم: إذا رأيت الله عز وجل سابغ نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره ا.هـ و ذلك حين ترى زيادة النعم و إسباغها بدون شكر لله عز وجل.
فهذه علامة خطر ينبغي الوقوف عندها، كما قال الله عز وجل ( أيحسبون أنما نمدهم بهم من مال و بنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) و لذا فسر سفيان ابن عيينه قول الله عز وجل: ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) قال: نسبغ عليهم النعم ونمنعهم الشكر ا.هـ نعوذ بالله من ذلك.
القاعدة الرابعة: كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية .
كما قال ذلك أبو حازم رحمه الله تعالى، و قال الحسن - رحمه الله - : إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر قلبها عليهم عذابا.هـ وانقلاب النعمة عذاباً مما نراه في واقعنا، فكم رأينا صاحب المال يعذب بماله، و ذا العيال يشتكي من عقوق أبنائه، و صاحب المنصب و الجاه ينكوي بلظى النعيم الذي يراه الناس يتقلب فيه.
خامساً: لا تعصيه بنعمه.
وهذه قاعدة متينة من قواعد الباب، لذا عرف كثير من السلف الشكر بذلك، فقد سئل الجنيد عن الشكر فقال: أن لا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه ا.هـ .
وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه: إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه: أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلا إلى معصيته ا.هـ
وكان مخلد بن الحسين يقول: كان يقال : الشكر ترك المعاصي ا.هـ
فهل من الأدب أن نستعين بنعم الله على معصيته ! فنعمة البصر ينظر بها للحرام، و نعمة السمع لا تسمع الذكر و القرآن، و المال لا يزكى و لا ينفق منه في سبيل الرحمن ، و تستغل المناصب و الجاهات و القدرات و المواهب في غير ما يحب واهب النعمة ، فلنسأل أنفسنا إذاً : هل نحن ممن يشكر الله أم ممن يعصيه بنعمه ؟!
سادساً: الشكر بالعمل .
وذلك بالعبودية لله عز وجل و التقرب إليه بأداء الفرائض أولا، فلم يشكر الله عز و جل من لم يؤد فرائضه، ثم بأداء النوافل و القربات ، ثم بحسن التعامل مع خلقه ولين الجانب لهم والبعد عن ما يضاد ذلك من سوء الأخلاق والظلم والشطط .
ثم بصرف النعم في مصارفها، واستغلالها فيما يناسبها ، فكيف يكون شاكراً من يلهج لسانه بالحمد و الشكر على نعمه ثم ترمى بعد ذلك النعم في النفايات ! أو يصرف نعمة البصر والمال والصوت والسمع.. إلخ في غير ما يحب الله عز وجل ثم يحمده و يشكره عليها بعد ذلك.
ولذا قام النبي صلى الله عليه و سلم الليل حتى تفطرت قدماه فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال: ( أفلا أكون عبداً شكورا) فيجب أن يتواطأ القلب و اللسان و الجوارح بالشكر، فهي منظومة متكاملة، آخذ بعضها بآخية بعض، و لهذا جاء الحض عليها في القرآن ( اعملوا آل داود شكرا .
سابعاً : لا يشكر الله من لا يشكر الناس .
فمن قواعد الشكر أن تكافئ من أسدى لك معروفاً أو خدمة ومعونة ، مهما كان حجمها وقدرها ، فإن لم تستطع مكافأته حسياً ، فلتشكره بلسانك و تثني عليه خيراً بما قدم لك ، كما في حديث جابر مرفوعا : ( من صُنع إليه معروف فليجز به ، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ) .
وهذا هو التوازن المطلوب من المسلم ، الذي حين فقدناه سقطنا في قاع الانفصام النكد ، فتجد من يتورع عن الربا و لكن لا يبالي بمال اليتيم.
ومن تورع عن الكذب وهو يفري أعراض الناس، و التوازن هو منح الناس حقهم من الشكر والإحسان " لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه وأبي أن يقبلهما إلا معاً لأن أحدهما دليلٌ على الآخر وموصولٌ به فمن ضيع شكر ذي نعمةٍ من الخلق فأمر الله ضيَّع وبشاهده استخف ولعمري إن ذلك لموجودٌ في الفطرة قائم في العقل: أن من كفر نعم الخلق كان لنعم الله أكفر لأن الخلق يعطي بعضهم بعضاً بالكلفة والمشقة وثقل العطية على القلوب والله يعطي بلا كلفة ولهذه العلة جمع بين الشكر له والشكر لذوي النعم من خلقه " .
تاسعا: ( و لتسألن يومئذ عن النعيم ) .
فهذه الآية فيها ما يكفي من الحث على الشكر و الاهتمام به ، لأنها تشمل كل نعمة على العبد قد تمتع بها كما قال الطبري رحمه الله " فالله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النعيم، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النعيم دون نوع، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع، فهو سائلهم كما قال عن جميع النعيم، لا عن بعض دون بعض " .
و قال ابن كثير " أي ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ما قابلتم به نعمه من شكره وعبادته "ا.هـ
فيا لله ما أعظم غفلتنا عما يراد بنا ! فإن كان ربنا يقول : ( و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) فلو مكث أحدنا عمره ليعد نعم الله عداً فقط بدون أن يشكرها فإنه لا يحصيها فمتى و كيف يشكرها.
ثم ما من نعمة إلا و نحن نتمتع بها وإن لم نعلم بها أو نستشعرها، ثم بعد هذا التمتع السؤال عن هذا النعيم، فهل أعددنا لهذا الموقف جواباً، وهل نبدأ بمراجعة أنفسنا ومحاسبتها لنذوق بعد طعم المزيد الذي وعدنا به لندرك بعد ما فاتنا من خير ونعيم ( وما تقدموا من خير فلأنفسكم ).
المصدر : ياله من دين