للهداية في أيامها الأولى لذة كبيرة يفتقدها من لم يهتد أومن فتر بعد هداية.
ويشعر المرء - في أيام هدايته الأولى - بالإيمان في صدره كما لم يشعر به في أي وقت مضى.
وكأنه نورٌ يغرفه الله في قلبه غرفاً.
ويجد المهتدي في طاعاته من اللذة ما يعجز اللسان عن وصفه.
ولا يصفه إلا قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة: "أرحنا بها يا بلال".
وقول غير واحد من السلف: والله إنا لفي لذة لوعلمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف.
ولعل من أبرز مميزات هذه الفترة من حياة العائد إلى الله هي الحماس للدين والاستعداد لتقديم أكبر التضحيات.
حماس يصل في بعض الأحيان إلى حد الطيش والخروج عن الضوابط الشرعية.
وتضحيات تصل إلى حد التضحية بأحب المحبوبات إلى النفس والتنازل عن أرسخ الأهواء فيها.
فهو مستعد لإحداث انقلاب في حياته ... و تغيير قناعاته ... والتخلي عما حَرُمَ من هواياته ... والانقطاع عمن غَوِيَ من أصحابه ...
وهو مستعد لتحمل أذى والديه وأقربائه ... وسخرية الجهلة من زملائه ...
وهو مستعد لتغيير وظيفته إذا لزم الأمر ...
وكلما زادت التضحيات، كلما زاد غرف الإيمان في قلب المهتدي.
ثم تمضي فيه سُنَّة الله كما مضت في عدد غير قليل من العائدين إلى الله.
فيطول عليه الأمد ويقسو قلبه ...
فيسثثقل مواصلة تقديم التضحيات.
ويتوقف عند حد معين في تربية نفسه والسير إلى الله.
وتظهر لأول مرة في حياة المهتدي الغفلة والانقطاع ...
فينقلب الحماس إلى فتور .... والتضحيات إلى تنازلات ...
ويتوقف غرف الإيمان ... وتبدأ عملية أخرى خطيرة ... عملية نزع الإيمان !
وتتكرر الغفلة ... ويتكرر في كل مرة نزع الإيمان ...
فلا يزال إيمانه في أفول ...
وقد يصل به الأمر إلى ألا يبقى في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان !!
و إذا حدث ذلك ... تصبح العبادات حركات مجردة بلا روح. وتصبح أحكام الشريعة - التي أتعب المهتدي نفسه لسنوات لحملها عليها - كأنها قيدٌ قيَّد المهتدي نفسه به وقد كان في غنى عنه.
بين يدينا حديث خطير يصف هذه السنة الإلهية في من اشتدت غفلته، حتى افتتن ...
وما منع الناس الاستفادة من هذا الحديث إلا صعوبة بعض ألفاظه ...
عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر،
حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة،
وحدثنا عن رفعها، قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل أثر الوكت ، ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل المجل... "
إلى قوله: "فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان" (رواه البخاري).
وبالرجوع إلى من فسر الحديث نجد ما يلي:
مفتاح فهم هذا الحديث هو أن تضع كلمة إيمان مكان كلمة أمانة، وكلمة مؤمن مكان كلمة أمين وعندها يتبين المراد جلياً. وهذا يتفق مع قوله تعالى :"إنّا عرضنا الأمانةَ على السّموات والأرضِ والجبالِ فأبينَ أن يحمِلنَها وأشفقنَ منها، وحَمَلَها الإنسانُ إنّه كان ظَلوماً جهولا".
أثر الوكت: أثر الجرح على الجلد بعد أن يبرأ.
المجل: فقاقيع الجلد الناتجة عن الحرق.
أما النومة إما تفسر بالمعنى الحقيقي أي بالنوم، أي يفتن الرجل في دينه فيقوم من نومه وقد نزع بعض إيمانه أو كله.
وإما بمعنى معنوي وهو الغفلة. فيكون المعنى: يغفل الرجل الغفلة، فيقبض الإيمان أو بعضه من قلبه في أثناء هذه الغفلة.
ومعنى الحديث، أن الإيمان نزل في أصل قلوب الرجال، وسيأتي زمان يرفع فيه الإيمان من القلوب بسبب الفتن التي تتعرض لها، قلا يتبقى منه إلا كأثر الجرح المتبقي على الجلد، أو كأثر الجمر على الجلد وما يحدثه من فقاقيع.
فعند نزع الإيمان، ترى الرجل يتعبد بحركات لا روح فيها، ولا محرك لها من القلب، بل هي أشبه بروتين يومي ألفته نفسه ...
فشتان بين إيمان الباطن الذي نزل في أصل القلب، وبين إيمان الظاهر الذي يشبه أثر الجرح المتبقي على سطح الجلد بعد برئه والذي يمثل إيمان أهل الغفلة.
وهكذا ... تمضي فينا سنن الله ونحن لا ندري ...
يغر الواحد منا قول الناس عنه: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده!
ويغره قولهم: هذا ملتزم ... هذا مستقيم ... هذا قدوة. وما وقر في القلب هو الفيصل ...
فحين نقارن بين إيماننا في أيام الهداية الأولى وبينه اليوم، يخشى الواحد منا أن يكون قد وقع له فعلاً عملية نزع الإيمان، وأن ما يحافظ عليه اليوم من حركات العبادة وأطلال الالتزام ما هي إلا أثر الوكت المذكور في الحديث.
نسأل الله تبارك و تعالى أن لا يحرمنا حسن عبادته و الشوق لطاعته و أن يديم علينا صالح نياتنا و إخلاصنا و إفرادنا وحده سبحانه على ما يحب و يرضى من سنة نبيه صلى الله عليه و آله و سلم , اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك , اللهم اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا فى أمرنا و ثبت اقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين , اللهم اجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير و اجعل الموت راجة لنا من كل شر , رب آتِ نفوسنا تقواها و زكها أنت خير من زكاها أنت وليها و مولاها , و صلى اللهم و سلم و بارك على نبينا محمد و الحمد لله رب العالمين .,,,,,,,,,,,,,,,,,,, منقول