أهل الثغور
الثلاثاء 22 ذو القعدة 1430 الموافق 10 نوفمبر 2009
الكاتب : الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري
اشتهر خبر الإمام المجاهد عبدالله بن المبارك -رحمه الله- والذي يقول فيه: «من اعتاصت عليه مسألةٌ فليسأل أهلَ الثغور، فإن الله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)».
وفي رواية: «إذا رأيت الناس اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: (لنهدينهم)».
وهذا الخبر يُروى عن ابن المبارك من قوله، ويُروى من قول سفيان بن عيينة له (1).
وقد كثر تداول الخبر، و الاستدلال به على أن أهل الثغور أعلم بأمر الجهاد، وأنهم هم الذين ينبغي أن يُستفتوا ويُرجع إليهم، وأنهم هم العلماء حقًّا، وليس غيرهم من القَعَدَةِ، وأنهم الجديرون بالهدى والسداد، ولذلك فرأيهم مقدَّم على رأي غيرهم، واجتهادُهم له الأولوية، وربما تجاوز الأمر بالانطلاق من هذا المعنى إلى تنقُّص العلماء الذين لم يَشْخَصُوا إلى هذه الثغور، ولم تغبَّر أقدامهم بالجهاد، وأنهم قد ركنوا إلى الدعة والموادعة، وألهاهم عن الجهاد وقول كلمة الحق الترفّه وتفخّذ النساء.
والحق أن هذه الكلمة التي تُروى عن الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك تحتاج إلى تأمُّل علميٍّ هادئ، يتطلب الوصولَ إلى الحقِّ ومعرفةَ مراد الله -عز وجل- من قوله المنزَّل، وتتبُّع كلام أهل العلم حولها حتى يفضي بنا ذلك إلى المعنى المتكامل للآية، وإذا نحن اجتهدنا في الوصول إلى ذلك؛ فإنَّ ثَمَّ معالمَ تَسْتَلْفِتُنا:
أولها: أن هذه الآية آية مكية، نزلت قبل أن يُفرض القتال، كما قرَّر ذلك أهل العلم (الاتقان1/36)، (الدر المنثور11/526)، فإن سورة العنكبوت سورة مكية، ولذا قال السُّدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال.
وقال ابن عطية: هي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عامٌّ في دين الله وطلب مرضاته.
وقال الشيخ ابن عاشور: في هذه الآية: لم يكن يومئذ جهاد القتال.
وبذلك عُلم أنَّ للآية معنًى أوسع من القتال في الثغور، فإن هذه الآية نزلت في مكة قبل أن يُفرض قتال، وقبل أن تكون ثمَّةَ ثغور.
ثانيًا: تنوَّعت عبارات المفسرين في تفسير هذه الآية، وإن كانت ترجع إلى معنًى عامٍّ يجمعها، فقد قال ابن عباس: الذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبُلَ ثوابنا.
وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية في العُبَّاد.
وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون.
وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصرُ الدين، والردُّ على المبطلين، وقمعُ الظالمين، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر.
وقال الضحَّاك: الذين جاهدوا في الهجرة لنهدينهم سبُلَ الثبات على الإيمان.
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور: هذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو، وهو المتقدم في أول السورة في قوله تعالى: (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ)؛ إذ لم يكن يومئذ جهادُ القتال.
ومعنى: (جاهدوا فينا): أي جاهدوا في مرضاتنا، بالدين الذي اخترناه لهم. ا.هـ.
وبذلك يعلم أنَّ تنوُّع كلام أهل العلم في هذه الآية يعود إلى معنى الجهاد في الفترة المكية، وهو الجهاد بمعناه العام.
ومن ذهب من العلماء إلى تفسير الجهاد بالقتال فهو من تفسير المعنى العام ببعض أفراده.
ثالثاً: لا تُعلم مسألةٌ علميَّة دينية أو دنيوية اعتاصت على أهل الرأي فاتخذوا هذا القرار، وكتبوا إلى أهل الثغور، ولم تكن الثغور عامرة بأفضل وأزكى ممن كانت عامرة بهم أيام أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ومع ذلك فقد اعتاصت عليهم مسائل كثيرة كمسألة ميراث الجدة على أبي بكر، والكلالة على عمر، والدخول إلى بلد الوباء وغيرها، ومع ذلك لم يكتبوا إلى الثغور، ولم يسألوا أهلها عن رأيهم، وإنما كان عمر يجمع أهل بدر، ومشيخة قريش، ويصدر عن رأيهم؛ و من نسبت إليه هذه العبارة ( ابن المبارك، أو ابن عيينة) لا يعرف عنه أنه كان يرجع إلى قول أهل الثغور في مسائل الخلاف ليعرف الراجح من الأقوال.
بل كان أهل الثغور هم الذين يعودون إلى فقهاء الأمصار ليعلموا الراجح من الأقوال ! روى ابن عساكر في تاريخ دمشق (35/167) عن محمد بن عبد الحكم قال : جاء أهل الثغر إلى مالك ، فقالوا له : إن رأي هذين الرجلين قد غلب على أهل الثغر : سفيان الثوري والأوزاعي، فرأي من ترى نأخذ؟ فقال مالك : كان الأوزاعي عندنا إماماً! فما بالهم لم يرجعوا إلى فقهاء ثغرهم لمعرفة ذلك ؟!
رابعاً: لا يُعلم في مرجِّحات الأقوال والآراء أنَّ هذا الرأي هو رأي أهل الثغور، أو أنَّ هذا اجتهاد مَن في الثَّغر. وهذه مدونات الفقه يذكر فيها قول أهل الثغور أحياناً نادرة في مسائل الخلاف، ويساق ضمن القائلين بأحد الأقوال دون أن يجعل قرينة على رجحان ذلك القول بل لا يجد الفقيه غضاضة في اختيار خلاف قولهم كما في صنيع الإمام أحمد. انظر : المغني (10/446 طبعة دار الفكر ).
خامساً: إن الذي حصل في التاريخ هو عكس ذلك، فقد حصلت مُراجعة أهل الثغور في اجتهادهم، كما استدرك عمر -رضي الله عنه- على أَبي عُبيد الثقفي في معركة الجسر، التي هُزم فيها أبو عبيد، فقال عمر رضي الله عنه: لو انحازوا إلي كنت لهم فئة (تفسير عبد الرزاق 1/448)، ومصنف ابن أبي شيبة (12/536)، فكان رأي عمر استدراكًا على اجتهاد أبي عبيد الذي كان في الثغر وفي مواجهة الفرس.
وهذا أحمد بن حنبل كان يتعجب من قول أهل الثغور في مسألة من مسائل الجهاد ! وهي: الطفل الحربي يسبى ومعه أبواه أو أحدهما ، وذهب إلى خلاف قولهم واحتج عليهم بحديث : " فأبواه يهودانه أو ينصرانه..". أحكام أهل الملل للخلال ، والاستذكار (3/117)، وفي طبقات الحنابلة (1/394) أنه ضحك من قولهم وقال : أهل الثغور يصنعون أشياء ما أدري ما هي !! أحكام أهل الذمة (2/193).
بل هذا إسحاق بن راهويه الإمام الفقيه المحدث قيل له : إن أهل الثغور يلعبون بالشطرنج لأجل الحرب ، فقال : هو فجور !
انظر : الكبائر للذهبي ( ص:88)، والنكت على المحرر للمجد بن تيمية (2/267).
سادساً : كان أكثر علماء الأمة على تتابع عصورها علماءَ أمصار، وليسوا علماءَ ثغور، مثل سعيد بن المسيب، وفقهاء المدينة السبعة، والزهري، والأئمة الأربعة، وابن قدامة، وابن تيمية، وابن حجر، وغيرهم.
بل إن من العلماء من لم يَشهد معركةً قط، ولم يخرج في سرية قط، كالأئمة الأربعة فلا يُعلم لهم شهودُ معركة، ومع ذلك فإن أحكام الجهاد إنما أُخذت من فقههم، ورُجِعَ فيها إلى اجتهادهم، وما أقعدهم -رحمهم الله- عن الشخوص جبن ولا خوَر ولا شحّ بأنفسهم، ولكن علمهم أن ما هم فيه رباط وجهاد ليس دون ما عليه أهل الثغور، إن لم يكن أولى وأجدى كما قال الإمام مالك لعبد الله العمري (وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر) التهميد (7/185)، السير (8/114).
سابعاً: أن الجهاد في الآية ينبغي أن يُفسَّر بمعناه العام، كما فسَّره به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين شهدوا تنزيل الوحي وفقهوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أنزله الله إليه.
كما روى البخاري من حديث عِباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من اغبرَّت قدماهُ في سبيل الله حرَّمه الله على النار»، وقد أورد البخاري هذا الحديث في باب المشي إلى الجمعة، وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: أورده هنا لعموم قوله: «في سبيل الله» فدخلت فيه الجمعة، ولكون راوي الحديث استدلَّ به على ذلك.ا.هـ.
وبذلك يَعلم كلُّ ذي بصيرة أنَّ هذه الآية في توقيت نزولها، وفي تفسير العلماء لها، وعملهم بمعناها لا تلاقي ما يحاول بعض إخواننا سوق دلالتها إليه عندما يَدْخلون باسم الجهاد الذي لم تستوف شرائطه ولوازمه في مواجهات غير متكافئة يفتاتون بالقرار الأكبر والأخطر فيها على الأمة علمائها وحكمائها وذوي البصيرة والرأي فيها بزغم أنهم أهل الثغور، وأهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولو غيبت الأمة كلها عن قرار تصل إليها تداعياته وتطالها آثاره وتبعاته.
إن أهم ما نعتبر به من هذه الآية هو أن نفقه منها أهمية المجاهدة بمعنى استفراغ الوسع في تطلّب الحق، والاجتهاد في إصابته على مراد الله ورسوله، وصدْق اللّجأ إلى الله أن يصيب بنا الحق، ومن كان كذلك فهو حريّ أن ينال موعود الله في هذه الآية (لنهدينهم سبلنا).
وعلينا أن نحذر من أن نقع من حيث لا نشعر في التترس بدلالة ننتقيها من النص لتسعفنا في أمر قد فرغنا منه، أو تعذرنا في مزلة قد تورّطنا فيها.
إن علينا أن نجاهد أنفسنا على الانقياد لدلالات النصوص، لا أن نسوق دلالة النص لندافع بها عن آرائنا واجتهاداتنا، فضلاً أن نجعل من دلالات النصوص المنتقاة قنطرة للوقوع في أعراض علماء يخالف رأيهم رأينا، واجتهادهم اجتهادنا، وليسوا بأقل منا حرصاً على تطلّب الحق وإصابته.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء صراط مستقيم.
(1) لم أجد هذا الأثر، يروى مسنداً إلا من وجهين:
الأول : رواه ابن أبي حاتم في التفسير (9/3084) وفي إسناده من لا يعرف.
الثاني: رواه الثعلبي في الكشف والبيان (7/290) عن سفيان بن عيينة وفي إسناده عبد الله بن محمد بن وهب تركه الدارقطني ،لسان الميزان (4/573). والأعجب أن مظنته الأولى كتاب الجهاد لابن المبارك ولم أره فيه.
منقول