نايف وإبراهيم.. كوكبان أفلا

عادل المحلاوي


الهداية نعمة من الله تعالى من أعظم المنن , وحب الطاعة لا يعدله حب , والتوفيق لفعل الخير منحة إلهية لا تعدلها كنوز الدنيا , ونحسب أن الله تعالى قد وفق لهذا شابين من شباب هذا الزمان ممن عاشوا معنا , واختارهم الله لجواره وهم في ريعان شبابهم ,ويصدق فيهما قول أبو الحسن التهامي في رثائه لولده :
يا كوكبا ما كان أقصـر عمـره وكذاك عمر كواكب الأسحـار
وهلال أيام مضى لـم يستـدر بدرا ولم يمهـل لوقـت سـرار
جاورت أعدائي وجـاور ربـه شتان بيـن جـواره وجـواري
ولإن غيب الموت أشخاصهم عن أبصارنا إلا أننا لم ننسهم على مر الليالي والأيام - فا للهم اجمعنا بهم في دار لا فراق فيها - آمين . من أين أبدا مقالي هذا ؟ وعن أي شيء أتكلم ؟ هل أتحدث عن صدق الاستقامة ؟ أو أحكي جمال الأدب , وعظيم الحياء ؟ أم أنشر عبير الجد في طاعة المولى عز وجل ؟.
نايف وإبراهيم شابان مستقيمان جعل الله لهما الحب في قلب كل من يعرفهم من حفاظ كتاب الله , ومن خيرة شبابنا الصالحين , استقاما في سن مبكرة لم تغرهم دنياهم بزخرفها الزائل , ومتعها الحقيرة .
أما (نايف) فقد ألتحق بالصحبة الطيبة وهو في المرحلة الثانوية (التوجيهي) فجد في حفظ القرآن وحفظه في فترة وجيزة.
وأما( إبراهيم) فعجب عجاب في استقامته, التحق بصحبة الأخيار وهو في الصف الأول المتوسط (الإعدادي ) وصار معهم حتى أدركته المنية وهو في الثالث الثانوي (التوجيهي) ست سنوات هي في عمرِ أقرانه وولاتهم مرتع اللعب واللهو, أما هو فقد صرفها في الجد في مرضات الله تعالى , فكان لهما ما أرادا ( حياة الطاعة وخاتمته الشهادة) .
كانت العبادة سمت بارزة لهم , والجدية فيها يعرفها عنهم كل أقرانهم يقول والد (إبراهيم) ما أعرف عنه إلا المسابقة للذهاب إلى المسجد , والتقدم في أول الوقت للصلاة ولذا عزم على إدراك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً اغتناماً لحديث " من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى ، كتب له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق" صحيح الترمذي فأدركها بفضل الله تعالى ثم بفضل همته العالية.
وكان قد جعل له سجادة في غرفته ليصلي عليها الليل , يقول معلمه : تحدثت يوماً في احد الدروس عن صلاة الوتر وذكرت قول الإمام (أن من يداوم على ترك الوتر فهو رجل سوء) قال: فأمسك بي بعد الدرس وقال مستغرباً : وهل هناك مسلم يترك الوتر ؟ .
عُرف عنه البكاء عند تلاوة القرآن أو سماعه - وهكذا هي القلوب الرقيقة - .
حج مرتين على الرغم من صغر سنه إذ مات في الثامنة عشرة من عمره , ونوى الحج في عام وفاته لا حرمه الله أجر نيته , ولم تفته سنة الاعتكاف طيلة سنوات استقامته الست في عمره القصير .
وكذا كان أخوه (نايف) - أنزل الله على قبريهما شآبيب الرحمة - فقد كان جاداً في العبادة , حريصاً على الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبان دراسته هناك ,مسابقاً للصلاة حريصاً على الصف الأول يعرف ذلك عنه إخوانه , لقد كانت الجدية ظاهرة عليهما في هذا الباب ولازلت أذكر(نايف ) وكأني أنظر إليه الآن وقد اتخذ ذلك المكان في زاوية من المسجد فترة اعتكافه , وقد ستره بستر رقيق ليخلو بربه عز وجل ما بين تلاوة وصلاة وذكر.
وكان كثير الخلوة في ذلك المكان ولا يكاد يأكل معنا إلا ما يقيم به صلبه , كان يصلي أحياناً بإخوانه بعد صلاة التراويح وكأني أسمع صوته الشجي يرتل تلك الآيات والخشوع قد ملأ جوارحه,والبكاء والخشية في تلاوته لا تفارقه,فقد عُرف عنه ذلك . صلى ذات يوم بجماعة مسجد حيه وقرأ آيات من سورة الأعراف وبكى وأبكى الناس , وكثيرا ما كان يسأله إخوانه أين تصلي الليلة كي يصلون معه .
يقول أحد جيرانه : كنت وأنا أدخل لمنزلي في ساعات الليل المتأخرة أمر بجوار غرفته فأسمعه يتلو الآيات بقراءة حزينة مترسلة فأتعجب من جمال تلاوته , وجَلَده على العبادة , ولقد وصف الله تلك النفوس الشريفة بقوله (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9).
وبقوله (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:16) جعلهم الله ممن وُعِدوا بقوله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17).
وكأنهم يصدق فيهم قول عبدالله بن المبارك عن صفة الخائفين : إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع لهم تحت الظلام وهم سجود أنين منه تنفرج الضلوع وخرس بالنهار لطول صمت عليهم من سكينتهم خشوع.
- مما تميزا به رحمهما الله بر الوالدين, فقد كان البر من أرجى أعمالهم وأحبها إلى قلوبهم وكانا يقوما برعاية الوالدين وطاعتهم , وإدخال السرور عليهم , وكم تحدث والداهم عن عجيب برهم بهم , وكذا إحسانهم لإخوانهم فقد اجمعت بيوتهم على حبهم حباً عظيماً
- كان الصيام وهو عبادة المخلصين عبادة قد حُببت لهما , فلم يُعرف عنهما إلا المحافظة على صيام الاثنين والخميس والأيام البيض, ولا يفوتا صيام الأيام الفاضلة كعشر ذي الحجة ونحوها , لقد كان لجديتهم في العبادات الأثر العظيم في اغتنام الحياة في كل طاعة
-أما القرآن الكريم فقد كان أحب شيء إليهما في الحياة قد جعلاه أنيسهم وجليسهم , وقد رزقهم الله حفظه في فترة وجيزة , وكانت أوقاتهم كلها مصروفة له, لا تراهم في المسجد إلا القرآن معهما , وبين إخوانه لا يُعرفان إلا والمصحف بين أيديهما فقد رسمت صورتهما مع القرآن قد خُلط بدمائهما واستقر حبهم في قلوبهما.
يقول أحد إخوان (نايف) : لا أذكر أني دخلت عليه البيت يوماً من الأيام إلا والقرآن بين يديه , كنت أرى القرآن معه كل وقت وحين , وأذكر زاويته التي كان يجلس فيها منفرداُ بكتاب الله تعالى ويطيبُ قلب بالتلاوة حاضر ويطيب عيش عندها وممات إني لأغبط في هناءة مؤمن قلباً تحرك جانبيه صلاة هذا الكمال إذا أريد بلوغه هذي النجاة إذا أريد نجاة هذي النفوس زكية ريانة هذي الوجوه من الهدى نضرات.
من أعمال البر الجليلة التي تميزا بها (إخفاء العمل) ومن ذلك : أن عجوزاً كانت تسكن لوحدها فكان إبراهيم يتعاهدها بالرعاية والإحسان , ويقوم بشؤونها ويحضر لها الطعام والشراب .
كان حب الله والدار الآخرة مغروس في نفوسهم آثروه على الدنيا وملاذها , تقول (أم نايف) : حدثته يوماُ وقلت له : إن شاء الله تتعافى من مرضك ونزوجك – وهذا الكلام قبل فترة بسيطة من وفاته – فكان يقول : يا أماه أنا لن أتزوج من نساء الدنيا بل زوجاتي من الحور العين بإذن الله تعالى وهناك سمتان بارزتان لهذين الشابين – وما أكثر السمات المباركة فيهما- .
هاتان السمتان هما ( الحياء الفذ , وحفظ اللسان وقلة الحديث ) أما الحياء لهما : فأحياناً من شدة حياء (نايف) لابد أن استفهم حديثه ويعيده لي مرة أخرى لشدة أدبه وحيائه , أما (إبراهيم) فغالباً ما كان يتحدث وهو مطأطأ الرأس من شدة حيائه , وقد أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل الحياء , وأثنى عليهم أعظم الثناء فقال "الحياء لا يأتي إلا بخير"رواه مسلم وقال " الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة "رواه الترمذي .
وكانت صفته البارزة عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة رضي الله عنها كما عند البخاري ولقد كان لقلة حديثهم وعدم الخوض في فضلة الكلام أثر كبير في محبة إخوانهم لهم وتقريبهم إليهم .
وبعد فهذا غيض من فيض لهذه السيرة العطرة , أتُرى كيف تكون خاتمة أصحابها ؟ اقرأها بعينك وعشها بقلبك علها أن تحرك فيك كامن الكسل عن الطاعة , وتطرد عنك التردد في التوبة , وترك التسويف الذي أهلكك ,وأن يرزقك الله مثل هذه الخاتمة وأفضل .
كانت وفاتهم في شهر ربيع الثاني وكانت ميتتة عجيبة لا يمكن لأحد أن ينساها , فقبلها قد من الله عليهما بأداء الحج ذلك العام , وقبل وفاة (نايف) بأسبوعين رجع إلى مكة حرسها الله لأداء العمرة ومما يذكره إخوانه الذين كانوا معه في تلك الرحلة أنه طيلة الطريق أثناء رجوعه كان مستغرقاً في الاستغفار ولا يكلم أحداً إلا قليلا .
يقول أحد إخوة (نايف) أتذكر ليلة وفاته غفر الله له : أنه لم ينم تلك الليلة بل قامها كلها مصلياً إلى الصباح , وأيقظ إخوته كلهم لصلاة الفجر وعاد ولم ينم بل كان يقرأ القرآن ضحى ذلك اليوم كله حتى عاتبته جدته في ذلك وكان يقابل هذا العتاب بابتسامة المتأدبين , وكان منشرح الصدر كما حدثني أحد الإخوة الذين اتصل به بعد فجر ذلك اليوم.
أما (إبراهيم ) فقد قال لي والده : رأيته آخر ما رأيته وهو يتوضأ للصلاة ثم يخرج متطهراُ , كانت وفاتهم يوم جمعة وقد استعدا للذهاب إلى القرية للصلاة بالناس صلاة الجمعة وكان(نايف) الخطيب و( وإبراهيم) مرافقا له ومعه بعض الإعلانات لمحاضرة لتوزيعها هناك.
وقدر الله عليهم ذلك الحادث الأليم قبل الوصول إلى المسجد بمسافة قصيرة وينتقلا إلى جوار الكريم سبحانه وتعالى في يوم جمعة وفي أشرف عمل – الدعوة إلى الله تعالى- وعلى أشرف حال –متطهرين متطيبين - , قاصدين عبادة عظيمة – صلاة الجمعة والخطبة في الناس – وصدق الله ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:100) آلا ما أشرفها من ميتتة , وما أعظمها من خاتمة , وانظر كيف جمع الله لهم الخير بحذافيره .
جاء فقد روى الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر. قال الألباني في أحكام الجنائز: فالحديث بمجموع طرقه حَسَنٌ أو صحيح.
وفي الحديث أيضا أِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ ، فَإِنَّهُ فِي صَلاةٍ ) رواه أبو داود (562) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
فنحسبهم أنهم في حال صلاة من حين خروجهم من بيوتهم مع واجب الدعوة في مشوارهم هذا , وأعمال البر القريبة التي سبقت ميتتهما فما أعظمها من خاتمة , وأحسنها من عاقبه , وأشهد وقد كنت فيمن غسلهما أن كل واحد منهما قد رفع إصبع السبابة علامة التوحيد فرحمهم الله رحمة واسعة ولقد أكرمهما الله برؤى ومنامات بعد موتهما.
والمؤمن تسره الرؤيا وهي من المبشرات فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا . يراها العبد الصالح أو ترى له " .
وقد جاءت المبشرات لهما في رؤى كثيرة يقول أحد إخوة نايف : بكيت عليه أول خمسة أيام من رمضان بكاء كثيرا فرأيته في منامي يقول لي : لا تبكي علي يا أخي فوالله إني لفي عداد الشهداء ومقدمتهم وتقول أم إبراهيم من الرؤى التي رأيتها فيه أنه جالس بجوار نهر جار – مما يدل على جريان عمله – بإذن الله تعالى .
دروس وعبر من هذه السيرة المباركة : المؤمن يبادر عمره وحياته , فلما ينتظرا (نايف وإبراهيم ) أن يكبرا ثم يستقيما , كما هو حال الكثير من الشباب الذين يُسوفون حتى ربما أدركهم الموت , وكم نعرف ممن مات في سن الشباب , بل هم ماتا في هذا السن .
فضل الاستقامة في سن الشباب والأحاديث في ذلك كثيرة , ( وليس من تقدم كمن تأخر, وليس من سارع كمن تباطأ) فبادر وقتك .
الصدق في الاستقامة من أعظم أسباب حسن الخاتمة , يظهر هذا جلياً في خاتمتهم , نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا من الأشياء البارزة في حياة الصالحين , دعاء بعضهم لبعض.
وهذا ما أعرفه عن إخوان (نايف وإبراهيم ) من الأخيار أنهم كثيري الدعاء لهم , يقول أحدهم : كثيراً ما أدعو لهم عندما أدعو لنفسي ولا أذكر أني دخلت المقبرة يوماً إلا خصصتهما بالدعاء ,فهل حرصت على الصحبة الطيبة , ومن سيدعو لك بعد موتك؟.
اللهم اغفر ل (نايف وإبراهيم ) وارفع درجتهما في المهدين واجمعنا بهم قي جنات النعيم , نحن والدينا والمسلمين آمين .

ياله من دين