نصيحة عبد الملك لأمير المؤمنين :
كان دائمًا يأتي بالخبر الفصل، وينطق بالكلام الجزل في القضايا العويصة, وبشجاعة يعجز عنها الأفذاذ، فموقع الوزارة من أبيه عمر جعله دائمًا ينظر إلى صلاح آخرة الأمير، وهذه مهمة الوزير الحقيقية: النصيحة الشجاعة، وليس تبرير تصرفات الأمير كأنه سكرتير خالص له!!
فقد جمع عمر بن عبد العزيز الناس واستشارهم في رد مظالم الحجاج، فكان كلما استشار رجلاً قال له: يا أمير المؤمنين ذاك أمر في غير سلطانك ولا ولايتك, فكان كلما قال له رجل ذلك أقامه، حتى خلص بابنه عبد الملك، فقال له ابنه: يا أبي ما من رجل استطاع أن يرد مظالم الحجاج فلم يردها إلا شركه فيها، فقال له عمر: لولا أنك ابني لقلت: إنك أفقه الناس؛ الحمد لله الذي جعل لي وزيرًا من أهلي عبد الملك ابني.
حلم عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز :
قليل من الناس لا تغيرهم المناصب، بل يغيرونها بأخلاقهم، واسمع لهذا الموقف من الشاب المكتهل، فعن إسماعيل بن أبي الحكم قال: غضب عمر بن عبد العزيز يومًا فاشتد به غضبه وعبد الملك حاضر، فلما سكن غضبه قال: يا أمير المؤمنين أنت في قدر نعمة الله عليك، وفي موضعك الذي وضعك الله به، وما ولاك من أمر عباده يبلغ بك الغضب ما أرى؟ قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه الكلام، فقال له عمر: أما تغضب يا عبد الملك؟ قال: ما تغني سعة جوفي إن لم أرد فيه الغضب حتى لا يظهر منه شيء أكرهه، وفي رواية: لا والذي أكرمك بما أكرمك به، ما ملأني الغضب قط.
وذات يوم أمر عمر غلامه بأمر، فغضب عمر، فقال عبد الملك: يا أبتاه.. ما هذا الغضب والاختلاط؟ فقال عمر: إنك لتتحلم يا عبد الملك؟ فقال عبد الملك: لا والله ما هو التحلم، ولكن الحلم.
قال ابن رجب: "ومراد عبد الملك أن الحلم عنده صفة لازمة، وهو مجبول عليها، ولا يحتاج أن يصطنعه ويتكلفه من غير أن يكون عنده حقيقة".
الحزم قبل أن ينتقض العزم :
روى أبو بكر الآجري: أنه لما دفن سليمان بن عبد الملك خطب عمر الناس ونزل، ثم ذهب يتبوأ مقيلاً، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين, من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: اُدن مني أي بني، فدنا منه، فالتزمه وقبله بين عينيه, وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، وخرج فلم يُقِل، وأمر مناديًا: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها.
وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: "جلس عمر يومًا للناس، فلما انتصف النهار ضجر وعلَّ وملَّ، فقال للناس: شأنكم حتى أنصرف إليكم، فدخل يستريح ساعة، فجاءه عبد الملك فسأل عنه قالوا: دخل يستريح، فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين ما أدخلك؟ قال: أستريح ساعة، قال: أَوَأَمِنْتَ الموت أن يأتيك ورعيتك ينتظرونك وأنت محتجب عنهم؟ فقام من ساعته وخرج إلى الناس.
موعظة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه :
قلما تجد معزيًّا يذكر الأمير بقضية الموت، وينقل صاحب البلية من الانشغال بالبكاء على غيره للبكاء على نفسه؛ فعن يحيى بن إسماعيل قال: "مات ابن لعمر بن عبد العزيز، فكشف عمر الثوب عن وجهه، وجعل يستدمع، فجاء عبد الملك فقال: أشغلك يا أمير المؤمنين ما أقبل من الموت إليك؟ بل وهو في شغل عما حل لديك، فكأنك قد لحقت به وساويته تحت التراب بوجهك، فبكى عمر ثم قال: رحمك الله يا بني فوالله إنك لعظيم البركة، نافع الموعظة لمن وعظت، ولكن جزعي لما علمت أن ملك الموت دخل داري، فراعني دخوله، فكان الذي رأيت.