الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
نعزي الأمة الإسلامية عامة، وأهل العلم والحديث خاصة بوفاة كبير المحدِّثين، وريحانة العلماء العاملين، والدعاة الصابرين، ونادرة المحققين، شيخنا العلامة السلفي أبي محمود عبد القادر الأرناؤوط الدمشقي رحمه الله تعالى.
حيث انتقل إلى رحمة الله فجأة فجر الجمعة 13 شوال 1425 وصلى عليه عشرات الآلاف بعد صلاة الجمعة في جامع زين العابدين بحي الميدان في دمشق، الذي خطيبه الشيخ كريّم راجح شيخ قراء دمشق.
إنا لله وإنا إليه راجعون، وأحسن الله عزاءكم .
وهذه ترجمة موجزة بحسب المقام :
مولده واسمه:
وُلد شيخنا رحمه الله في بلدة فريلا في إقليم كوسوفو بالبلقان سنة 1347 ثم هاجر وهو في الثالثة مع أبيه إلى دمشق، وذلك فرارا من اضطهاد الملاحدة الشيوعيين للمسلمين هناك، وفي دمشق ألقى عصا التسيار، واستقر وأمضى حياته المباركة، مع احتفاظه بصلات دعوية مع بلده الأم.
اشتهر شيخنا باسم عبد القادر الأرناؤوط، إلا أن اسمه الحقيقي في الهوية هو: "قدري صوقل عبدو" والأرناؤوط نسبة كان يطلقها العثمانيون على أهالي ناحية ألبانيا.
نشأته العلمية ومشايخه:
نشأ الشيخ في دمشق، وكان والده عاميا محبا للعلم، فدفعه مبكرا لحلقات المشايخ، ودرس أول نشأته مبادئ الفنون على الشيخ صبحي العطار، وسليمان غاوجي الألباني (والد الشيخ وهبي) في حارة الأرناؤوط بدمشق، ثم اشتغل ساعاتيا في محل الشيخ سعيد الأحمر رحمه الله بحي العمارة، وهو من أهل العلم الأزهريين، فأُعجب بذكاء شيخنا، فقال لأبيه: ابنك هذا ينبغي أن يكون طالب علم، وعلى أثر ذلك انضم شيخُنا إلى حلقة الشيخ صالح الفرفور في الجامع الأموي، وكان زملاؤه آنذاك المشايخ: عبدالرزاق الحلبي، ورمزي البزم، وأديب الكلاس، وشعيب الأرناؤوط.
ونظرا لتميز شيخنا في تجويد القرآن الكريم فقد صار يقرئ زملاءه المذكورون ويعلمهم التجويد، ثم ارتقى حتى
صار يقرأ عند شيخ القراء محمود فايز الديرعطاني، وختم عنده لحفص، وكان الشيخ الديرعطاني يحب قراءة شيخنا وسلامة مخارج الحروف عنده، ويقول له: أنت قراءتك سليقية، وحاول أن يستمر ويجمع عليه القراءات، إلا أن شيخنا آثر الانصراف إلى علم الحديث.
وللتنبيه فقد رأيت في كلام بعض من ترجم شيخَنا أنه درس عند عبدالرزاق الحلبي، وهذا غير صحيح، بل جمعتهما الزمالة أول الطلب.
ولم يحصل شيخنا على شيء من الشهادات العصرية، اللهم إلا شهادة الصف الخامس الابتدائي من مدرسة الإسعاف الخيري؛ التي درس فيها بعد سنتين من دراسة في مدرسة الأدب الإسلامي.
واستمر شيخُنا في طلب العلم والمطالعة والدعوة، ورزقه الله حافظة قوية، أفادته في العلم والحفظ، واستفاد من عمله في المكتب الإسلامي عند الشيخ زهير الشاويش، برفقة العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وشعيب الأرناؤوط، وغيرهم، كما استفاد من صلته بشيخ السلفيين بالشام محمد بهجت البيطار، المعروف في الشام والحجاز ونجد.
وحصلت لشيخنا بعض الإجازات بأخرة، من أشهرهم الشيخين: عبد الغني الدقر، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل تدبجا.
المنهج السلفي:
في آخر فترة دراسته على الشيخ صالح فرفور حصلت لشيخنا مشكلة معه، تتلخص أنه عُقدت له جلسة محاكمة بجريمة اقتنائه للوابل الصيب لابن القيم! وأُبعد الشيخ عن الحلقة على إثرها بتهمة الوهابية! وقاطعه زملاؤه تبعا، وتهمة (وهابي) كان أشنع تهمة يُمكن أن يُرمى بها إنسان في دمشق آنذاك، وتساوي كلمة (زنديق)!!
وكان الشيخ وقتها لا يعلم شيئا عن الوهابية، ولكن هذه الحادثة، وتعلقه المبكر بالحديث، ولا سيما مدارسته وحفظه من صحيح مسلم، والتوجيهات اللطيفة من شيخنا المعمّر عبدالرحمن الباني حفظه الله، كانت هي الأسباب المباشرة لتحوله سلفيا، حتى نال الإمامة فيها، ووصلت سمعته إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولا سيما في علم الحديث، ولعله لم يكن بعد الشيخ الألباني أكبر من شيخنا خدمة لعلم الحديث، حتى كان شيخنا ممن طُرح اسمه لترشيحه لجائزة الملك فيصل الأخيرة لخدمة الإسلام.
أعماله الوظيفية:
وتولى شيخنا الإمامة والخطابة في جامع الأرناؤوط وهو في أول العشرين تقريبا، وهناك تعرف على جاره الشيخ الألباني دون أن تكون له به صلة علمية وقتها.
ثم قام مع أهل الخير ببناء جامع عمر بن الخطاب في منطقة القدم جنوبي دمشق، وأمّ وخطب فيه عشر سنوات، ثم خطيبا في جامع الإصلاح بمنطقة الدحاديل عشر سنوات، ثم جامع المحمدي في المزة ثمان سنوات، وهناك توقف عن الخطابة سنة 1415
أما التدريس فقد بدأ به في حلقة شيخه صالح الفرفور في علم التجويد كما تقدم، ثم درّس علوم القرآن والحديث في مدرسة الإسعاف الخيري -التي تخرج منها- بين سنتي (1373-1380) تقريبا.
وفي سنة 1381 انتقل مدرسا للقرآن والفقه إلى المعهد العربي الإسلامي، وبقي مدرسا في معاهد دمشق العلمية إلى ما قبل سنتين تقريبا في معهد الأمينية.
فكانت حصيلة شيخنا رحمه الله في التعليم والإمامة والخطابة خمسون سنة، قضاها احتسابا لله تعالى.
من الجدير بالذكر أن علامة الشام الشيخ محمد بهجت البيطار كان قد أسند إليه في حياته إمامة جامع الشوربجي بالميدان والتدريس فيه، وهذه تزكية علمية عملية عالية لشيخنا الأرناؤوط.
كما ابتعثه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله إلى البلقان للدعوة منذ خمس وأربعين سنة، وذلك لما التقى سماحته بشيخنا في المسجد النبوي، وأُعجب بكلمة ألقاها، وعلم منه أنه يتقن اللغة الألبانية.
كذلك فقد تصدى شيخُنا لإفتاء الناس وفتح بابه لمشكلاتهم، ولا نظير له في ذلك إلا سماحة الشيخ ابن باز، حتى أمّه الناس من مختلف أنحاء سوريا، ولا سيما في مسائل الطلاق، إذ كان يفتي على مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وبقي يفتي ويتصدى لمختلف شرائح الناس إلى ما قبل وفاته ببضعة أشهر، ومن نافلة القول أن بابه مفتوح لطلبة العلم، إلى درجة أنه لم يستطع أن ينظم أوقاته مع الناس.
كما سافر للدعوة وإلقاء المحاضرات والندوات إلى بلاد شتى، وكانت له صلة دائمة بعلماء المملكة العربية السعودية وغيرها.
أعماله العلمية:
لم يعتن شيخنا بالتأليف، ومن أشهر رسائله: الوجيز في منهج السلف الصالح ووصايا نبوية، إلا أن شيخنا عُرف واشتهر بتحقيقاته وتصحيحاته للكتب، وهو من المكثرين في ذلك، حيث حقق أكثر من ستين كتابا في مختلف العلوم الإسلامية، ولعل من أشهر كتبه التي أخرجها من نحو أربعين سنة: (جامع الأصول) لابن الأثير، في (15) مجلدا، وبقي الكتاب إلى حين من أهم المراجع والموسوعات المطبوعة والمخدومة في علم الحديث، وكثير من الباحثين ينقل أحكام شيخنا منه، وهذا الكتاب هو الذي جعل شيخنا يغلب عليه الحديث.
ومن أشهر أعماله تحقيقه لزاد المعاد لابن القيم، بالاشتراك مع الشيخ شعيب الأرناؤوط، وهو كتاب كتب الله له القبول والانتشار.
ومنها: الأذكار للنووي، زاد المسير في علم التفسير، غاية المنتهى، المبدع شرح المقنع، روضة الطالبين، جلاء الأفهام، مشكاة المصابيح، الكافي للموفق، رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية، مختصر منهاج القاصدين، فتح المجيد، شرح ثلاثيات المسند، مختصر شعب الإيمان، تحفة المودود في أحكام المولود، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، الفرقان لابن تيمية، الوابل الصيب لابن القيم، الكلم الطيب لابن تيمية، التبيان في آداب حملة القرآن، التوابين لابن قدامة، وصايا الآباء للأبناء، الشفا للقاضي عياض، وغير ذلك.
كما قدم للكثير من الكتب، منها كتابي جمهرة الأجزاء الحديثية.
صفاته وأخلاقه:
كان شيخنا أبيض اللون مشربا بحمرة، أزرق العينين، أشقر، إلى الطول أقرب، قوي البنية، ذلك لأنه كان رياضيا بارعا في شبابه، وحفظ الله له صحته عموما إلى ليلة وفاته، إلا أن كسرا أصاب قدمه وأثّر على ركبته، مما جعله يجري عملية استبدال لمفصلي الركبة بعد سنوات من المعاناة، وأصيب آخر عمره بلقوة خفيفة في وجهه.
وكان شيخنا مرحا صاحب نكتة ودعابة، ومن أهم صفاته أنه لا يعرف التكبر ولا يرى لنفسه حظا، فقد كان شديد التواضع بالفطرة وزاده العلم تواضعا، ويكتب دائما في توقيعاته وعند اسمه: "العبد الفقير إلى الله العلي القدير، عبدالقادر الأرناؤوط ، خادم علم الحديث في دمشق"، وعندي بعض كتاباته الخطية يقول عن نفسه إنه طالب علم الحديث، وفي أخرى أنه ليس أهلا لأن يجيز، وهو آية في ترك التكلف، ومن سمع كلامه عرف فيه الإخلاص والصدق.
وهو مع ذلك قوي وجريء في بيان الحق والصدع به، أحسبه كان لا يخاف في الله لومة لائم، وله مواقف مشهودة في صلابته في السنة وتصديه للبدع والمنكرات وأهلها، وقصصه في هذا كثيرة.
وشيخنا كريم اليد، واجتماعي، كان يحضر دعوات الناس ومناسباتهم، إلا أن ميزته على كثير من المشايخ غيره أنه لا يكاد يضيع دقيقة من الوقت دون إرشاد ونصح، فما أن يجلس حتى يقول بصوته الجهوري الفصيح: روى فلان وفلان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يسرد شيخنا جملة من الأحاديث الجامعة المناسبة للحال، كل ذلك من حفظه المتقن، يرويها حرفيا لا بالمعنى، وبفصاحة دون تردد أو تلعثم.
وفاة الشيخ:
توفي شيخنا في دمشق فجر الجمعة 13شوال 1415 حسب تاريخ سوريا وتقويم أم القرى بالسعودية، أو 14 شوال حسب رؤية الهلال بالسعودية.
وقال محمد إبن الشيخ عبد القادر الأرناؤوط : "كان شيخنا أمس الخميس في كامل عافيته وصحته، ثم نام، ولما أرادت والدتي إيقاظه للفجر لم يرد عليها، ثم حرّكته فوجدته ميتا وجبينه متعرق، ولم يشعر به حتى أهله معه، فإنا لله وإنا إليه راجعون".
وصلي على شيخنا بعد صلاة الجمعة في جامع زين العابدين بحي الميدان، وصلى عليه شيخ قراء الشام الشيخ كريّم راجح حفظه الله، وامتلأ الجامع مبكرا، وكذا الشوارع المحيطة به رغم البرد، وكانت جنازة لم تشهد مثلها دمشق منذ فترة طويلة.
ونحن نرجو حسن الخاتمة لشيخنا، حيث مات بعد صوم رمضان، وبعرق الجبين، ويوم الجمعة، ومات ثابتا عزيزا شامخا رغم الأذى والمضايقات التي حصلت له في الفترة القريبة جدا.
نسأل الله أن يتغمد الفقيد برحمته، وأن يخلف على الأمة من أمثاله، وأن يخفف مصاب أهله وتلامذته وأحبابه، إن جواد كريم.