كتبه/ محمد القاضي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الناظر والمتأمل في آيات القرآن العظيم وما تحمله من معان عظيمة، وتوجيهات كريمة، خصوصًا لمن تحمل عبء الدعوة إلى الله ليقف مع بعض الآيات متعجبًا مما تحمله من توجيه يتناسب مع كل الظروف والأحوال، والأشخاص، والأزمان؛ فالتوجيهات القرآنية للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ومَن معه من الصحابة الأخيار هي نفسها التي نستدل بها في هذه الأزمان على ما كان من التغاير بين الشخوص والأحوال، وهذا يدل على ثبات المعاني القرآنية واستقرارها وأن التوجيهات القرآنية صالحة لكل زمان ومكان.
ومِن هذه الآيات التي تحمل هذا المعنى قوله -تعالى- في آخر سورة الروم: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ . فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:59-60)، وعند التأمل للمعاني التي تحملها هذه الآيات والتوجيهات الدعوية التي تتلألأ في هذه الآيات نجد الآتي:
1- مطالبة الدعاة بالصبر على ما تحمله الدعوة من صعوبات وعقبات، وما ينال الداعية من التكذيب والذم ومحاولات المغرضين والمنافقين النيل من دعوته، وذلك باتهامه بالكذب الشرعي تارة، أو بتلفيق القصص والحكايات حوله وحول دعوته تارة أخرى، أو بالكذب الصريح عليه تارات.. وتارات.. وهذا في الحقيقة يحمل في طياته مصلحة ونفع للمؤمنين؛ فإن الله يستعمل أمورًا كثيرة لنصرة الحق، ومنها: أنه يستعمل أقوامًا في نشره، وهم في حقيقة أمرهم أعداءً له، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) (متفق عليه).
فهذا وعد الله الذي لايتخلف أبدًا فلا تحسبوه شرًا لكم، بل هو خير لكم, فمع الصبر والثبات يأتي النصر من الله -تعالى- للدعوة وللدعاة، كما قال -تعالى-: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: اصبر على مخالفتهم وعنادهم، فإن الله -تعالى- منجز لك ما وعدك من نصره إياك، وجعله العاقبة لك، ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة".
وقال الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى-: "يقول -تعالى ذكره-: فاصبر يا محمد لما ينالك من أذاهم، وبلِّغهم رسالة ربك، فإن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم، والظفر بهم، وتمكينك وتمكين أصحابك وتُبَّاعك في الأرض حق (وَلا يسْتَخِفَّنَّك الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) يقول: ولا يستخفنّ حلمك ورأيك هؤلاء المشركون بالله الذين لا يوقنون بالمعاد ولا يصدّقون بالبعث بعد الممات، فيثبطوك عن أمر الله، والنفوذ لما كلَّفك من تبليغهم رسالته". "
إن أمثال هؤلاء بمشاربهم العلمانية المعروفة يحاربون الإسلام باسم التطرف ويصدون الناس عن الحق بتشويه صورة الدعاة
"
وقد بيَّن الله -تعالى- في هذه الآيات إلى أي مدى قد يصل عناد البشر للدعوة الربانية، فمع وضوح الآيات وقوة البراهين العقلية والنقلية هناك من يكذب بهذه الدعوة! وقد وجد مَن يكذب بالرسل مع وضوح حججهم وتنزل الآيات عليهم؛ فما بالكم بالدعاة؟!
فالقوم كانوا يكذبون بالقرآن مع علمهم تمام العلم بإعجازه, وهم لم يكونوا يكذبون بالقرآن فقط، بل كانوا ينالون من عرض صاحب الدعوة -صلوات الله وسلامه عليه-، ومِن أتباعه؛ فأنزل الله هذه الآيات تسلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- في مواجهة هذا التكذيب، والذي هو في الحقيقة تسلية لكل من يسير على دربه -صلى الله عيه وسلم- واستن بسنته.
قال الإمام الشوكاني -رحمه الله- في فتح القدير ما ملخصه: "( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي: من كل مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله وصدق رسله، واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) من آيات القرآن الناطقة بذلك، أو لئن جئتهم بآية كالعصا واليد (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ) أي ما أنت يا محمد وأصحابك إلاّ مبطلون، أصحاب أباطيل تتبعون السحر وما هو مشاكل له في البطلان (كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ) أي: مثل ذلك الطبع، يطبع الله على قلوب الفاقدين للعلم النافع الذي يهتدون به إلى الحق، وينجون به من الباطل.
ثم أمر الله -سبحانه- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالصبر؛ معللاً لذلك بحقية وعد الله وعدم الخلف فيه، فقال: (فَاصْبِرْ) على ما تسمعه منهم من الأذى، وتنظره من الأفعال الكفرية؛ فإن الله قد وعدك بالنصر عليهم، وإعلاء حجتك، وإظهار دعوتك، ووعده حق لا خلف فيه.
ومن معاني الصبر التي تشير إليها الآية الصبر على طاعة الله، وذلك بالحفاظ على ثوابت الدعوة وعدم التنازل عن هذه الثوابت مهما كانت المغريات أو مهما كانت التضحيات، ونقصد بالثوابت الأصول المستمدة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فالدعوة التي لا تحافظ على ثوابتها دعوة بلا هوية فهي شرقية تارة وغربية تارة أخرى، فلا يرجى لها الدوام والاستمرار فضلاً عن أن تنسب إلى ربانية.
2- قوله -تعالى-: (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ):
قال الشوكاني في الفتح: "أي لا يحملنك على الخفة، ويستفزنك عن دينك، وما أنت عليه، الذين لا يوقنون بالله، ولا يصدقون أنبياءه، ولا يؤمنون بكتبه، والخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، يقال: استخف فلان فلانًا، أي: استجهله حتى حمله على اتباعه في الغيّ. قرأ الجمهور: (يَسْتَخِفَّنَّكَ) بالخاء المعجمة والفاء، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق، والنهي في الآية من باب: لا أرينك هاهنا.
قال السعدي رحمه الله -تعالى- في معنى هذه الآية: "(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي: قد ضعف إيمانهم، وقل يقينهم؛ فخفت لذلك أحلامهم، وقل صبرهم، فإياك أن يستخفك هؤلاء فإنك إن لم تجعلهم منك على بال وتحذر منهم وإلا استخفوك وحملوك على عدم الثبات على الأوامر والنواهي، والنفس تساعدهم على هذا وتطلب التشبه والموافقة، وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف العقل خفيفه.
فهؤلاء الذين ينبغي أن يحذرهم الداعية على دعوته, فالذين يشنون هذه الحملة الهوجاء على رموز الدعوة السنية في بلادنا إنما يريدون دفع الدعوة إلى هذه الخفة والطيش وذلك بتبني مسالك العنف وسفك الدماء والدخول في مصادمات دامية يدفع ثمنها كاملاً الإسلام والمسلمون عمومًا والدعوة والدعاة خصوصًا، هذه الخفة التي لا نقبلها ولا نراها مسلكًا لبلاغ الدعوة إلى الناس.
وقد كان موقف الدعوة واضحًا ولا يزال من هذه الطرق والمسالك, وكانت ولا تزال أول من منع منها وحض الناس على تركها؛ فهذا الاستفزاز المستمر غرضه خبث وباطنه شيطاني، وقد كان لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، وهو يقول لمن بايعه من أهل الإيمان الذين دفعتهم العاطفة الإيمانية القوية والتي لم تكن انضبطت بعد بالمفاهيم الشرعية الرصينة عندما استأذنوه أن يغيروا على أهل هذا الوادي، فقال لهم: إني لم أؤمر بذلك، في صورة واضحة للثبات والرصانة والتمسك بإتباع الشرع في كل موطن وفى كل حين وعدم إطلاق العنان للعواطف وانه لا ينبغي أن يسود مبدأ من يقدر على شيء يفعله وإنما نفعل ما نؤمر به.
وهذا أيضًا ما وقع يومًا من بعض أهل البدع لعلى -رضي الله عنه- في صلاته، ففد اخرج الطبري في تفسيره: قال: "حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) قال: قال رجل من الخوارج خلف عليّ في صلاة الغداة: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فأنصت له علي -رضي الله عنه- حتى فهم ما قال؛ فأجابه وهو في الصلاة: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)".
فانظر إلى حاله -رضي الله عنه- وهو يستقبل هذا الاستفزاز بالإنصات أولاً، ثم بالفهم ثانيًا وبالرد المناسب ثالثًا، وهذا يدل على عمق علمه وقوة فهمه -رضي الله عنه-، ونحن نأتسي به عندما نواجه مثل هذه الاستفزازات والدعاوى الباطلة نرد بمثل قوله -تعالى-: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف:89)، وقوله -تعالى-: (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (الأعراف:87)، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
3- الذين يدعون إلى مثل هذه المهاترات هم أهل البدع والضلالات وأصحاب الأهواء، وعباد الدراهم والدنانير، والجاه والسلطة والشهرة، وقد جاء وصفهم في هذه الآيات بالجهل وعدم اليقين, فالذي يقوم بمثل هذه الحملات المشبوهة على رموز السلفية بين الحين والآخر إنما يفعل ذلك قطعًا مِن أجل الدنيا وما يبحث له فيها عن متاع فان، ولا يريد بذلك وجه الله.
بل في الحقيقة: إن أمثال هؤلاء بمشاربهم العلمانية المعروفة يحاربون الإسلام باسم التطرف ويصدون الناس عن الحق بتشويه صورة الدعاة، وهؤلاء لهم نصيب من قوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآَخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ) (هو:19-22) "
هذا وعد الله الذي لايتخلف أبدًا فلا تحسبوه شرًا لكم، بل هو خير لكم, فمع الصبر والثبات يأتي النصر من الله للدعوة وللدعاة
".
فلن تنفعهم يوم القيامة الأجندة الغربية، ولا الأموال الطائلة التي يدفعها مَن يريد النيل من الرموز السنية في هذه البلاد؛ لغرض تنفير الناس عن اتباع المنهج السني الصافي من الشيعة وغيرهم.
فقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره ما ملخصه: "يبين -تعالى- حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رءوس الخلائق: من الملائكة، والرسل، والأنبياء، وسائر البشر والجان، كما قال الإمام أحمد: حدثنا بَهْز وعفان قالا أخبرنا هَمَّام، حدثنا قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز قال: كنت آخذًا بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل قال: كيف سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يقول: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(هود:18). أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، من حديث قتادة به، وقوله: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) أي: يردُّون الناسَ عن اتباع الحق وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله -عز وجل-، ويجنبونهم الجنة.
(وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) أي: ويريدون أن يكون طريقهم عوجًا غير معتدلة، (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) أي: جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها، (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) أي: بل كانوا تحت قهره وغلبته، وفي قبضته وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة، ولكن (يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ) (إبراهيم:42).
وفي الصحيحين: "إن الله ليُملي للظالم، حتى إذا أخذَه لم يُفْلته"؛ ولهذا قال -تعالى-: (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) أي: يضاعف عليهم العذاب، وذلك لأن الله -تعالى- جعل لهم سمعًا وأبصارًا وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء، بل كانوا صُمَّا عن سماع الحق، عُميا عن اتباعه، كما أخبر -تعالى- عنهم حين دخولهم النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير) (الملك:10)" انتهى ملخصًا.
فليحذر كل امرئ على نفسه مِن فبل أن يأتي يوم القيامة؛ فيندم على ما قدم في هذه الحياة ولات حين مندم.
من موقع صوت السلف