إبتلاء يعقوب عليه السلام
هذا نبي الله يعقوب عليه السلام الذي وصفه الله بأنه من أهل القوة والبصيرة في الدين
حيث قال عنه وعن أبويه : { أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } سورة ص-45
وهو من سلالة إسحاق إبن إبراهيم خليل الله كما قال تعالى عن إبراهيم :{وَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً }سورة مريم-49
والذي وصفه النبي- صلى الله عليه وسلم- بالكرم حين قال: (الكريم بن الكريم بن
بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام) رواه
البخاري في فتح الباري...
ومع هذه الفضائل إلا أنه لم يسلم من إبتلاء الله الذي تحتم على عباده .
فقد امتحنه الله بفراق أحب أبنائه إليه يوسف ومن بعده شقيقه الأصغر الذي قيل أن
اسمه (بنيامين) ولم يكن وقع المصيبة على يعقوب بالأمر الهين ولا بالصورة الهينة
عليه إذ لك يكن يوسف عليه السلام إبناً عادياً بالنسبة لأبيه بل هو الصغير الذي ينال
عادة خالص المحبة من والديه حتى وصلت به المحبة إلى درجة عدم إستأمان إخوته
عليه فضلاً عن سائر البشر { قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ
لَنَاصِحُونَ }سورة يوسف-11
ولما استأمن إخوته عليه - حز في نفسه فراق ابنه ولو لحظات من الزمن فقال :
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}
سورة يوسف - 13
وهو الجميل الذي أعطي شطر الحسن كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث
الإسراء (فإذا أنا بيوسف إذ هو قد أعطي شطر الحسن) مسلم ...
والذي ضربت بجماله الأمثال ومن طبيعة الجمال أن يُحب, وأنه النبيه الذي تبدوا عليه
مخايل الذكاء والنجابة وتوسم فيه والده ذلك من رؤياه التي قصها عليه {إِذْ قَالَ
يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}
سورة يوسف-4
كل هذه العوامل جعلت يعقوب عليه السلام يزداد تعلقا في إبنه يوسف فلا عجب أن
يكون فراق الأب لابنه في هذا السن من أَمَر ما يذوقه من شدائد الحياة .
ولم يكن الفراق فراقا عاديا بين أي متحابين يعرف كل منهما مقر الآخر ومتى يلتقي
كل منهما بصاحبه بل كان فراقا مدبرا بمؤامرة عل طفل صغير لا يعقل ما يُراد به وما
يحاك ضده وزاد الطين بلة أن أصحاب الكيد هم إخوته وليس عدو غريب فإذا ادعى
الأخوة موته فمن ذا الذي يصدق حياته ونجاته ومع هذا كله تَجمل نبي الله يعقوب
بالصبر أولا وبالصبر آخرا وقال : بعد فراقه ليوسف: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ
عَلَى مَا تَصِفُونَ } سورة يوسف-18
وقال نبي الله هذه المقولة إستعانة بالله على إدعائهم مع شكه في مقالتهم كما قال إبن
كثير ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يَرُجْ صنيعهم على أبيهم فإنه كان يفهم
عداوتهم وحسدهم إياه على محبته له من بينهم )
وبطلان دعواهم تزيد الأسى هماً لأنه إذا لم تصح دعواهم بأنه مات فمعناه أنه بمصير
آخر الله أعلم به , فصبر عليه السلام صبرالراجي لفضل ربه , وعاش عليه السلام
سنين طوال قيل ثلاثين سنة مفارقاً لابنه مفكراً فيه ثم فوجأ عليه السلام بطلب العزيز
ابنه الآخر ثم فراقه بعد إتهامه بالسرقة كما قال تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ
إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } وقوله تعالى :{فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا
وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } سورة يوسف -70-81
فما كان منه عليه السلام إلا الصبر على الصدمات فقال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ
أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } سورة يوسف-83
ولم يلبث أن هيج فراق ولده الثاني ذكرى ولده الأول وتذكر بحزنه الجديد حزنه القديم
وحرك ما كان كامناً كما قال بعذ الشعراء :
لقد لامني عند القبور على البكاء *** رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته *** لقبر ثوي بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى *** فدعني فهذا كله قبر مالك
(اللوى- ما التوى من الرمل. والدكادك-الأرض الغليظة)
فثار في يعقوب عليه السلام الشوق والحنين وانهملت عيناه بالدموع.
كما قال الشاعر:
واتعبر لا يملك دمع العين من حيث جرى
وتنفس الصعداء حزنا على إبنه وتولى عن بنيه وقال {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ
عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ {84} قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ
تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ {85} قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ{86} سورة يوسف
ولامه أهل بنيه في إستمراه على تذكر يوسف رغم مضي السنوات الطوال على فقده
قيل أكثر من ثلاثين سنة وتأثير ذلك على صحته فقال ك { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى
اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} سورة يوسف-86
فيالها من إبتلاءات عظيمة توالت على نبي الله يعقوب عليه السلام أضعفت قواه
وشاب رأسه وابيضت عيناه وأخذت جُل همه وتفكيره غير أنه صبر واحتسب مع يقينه
بأنه بعد كل عسر يسراً.
************************************************** *
((بتصرف بسيط ))
فصبر جميل والله المستعان
أختكم في الله - غرباء