بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد وآله وصحبه أجمعين ..
وبعد ..
فإن مما يؤسف له حقاً وجود مثل هذا الأمر فيمن ظاهره الصلاح والتقى ، بل وممن يحسن شيئاً من العلوم ويتكلم بها ويفتي ..
ولقد سمعنا كثيراً وحُذِرنا مراراً من جمعٍ من أصحاب الفتاوى المنحرفة الشاذة والتي تخرج من أناس قد يشتغل بعضهم في بعض المجالات العلمية ، ثم يخرج للناس بطريقة استعراضية لعل من ورائها هدف الشهرة والله أعلم بما في القلوب ، إذ قد سمعنا فتاوى من العجب بمكان ، ولا أقل من أن تثير ضحك المتعجب وإن من شر البلية ما يضحك ..
إلا أني هنا سأتحدث عن قوم لهم طابع آخر ، ليسوا ممن يصح اتهامهم بابتغاء الشهرة إذ لا مجال لهم فيها إلا فيما يحيط بهم ، ولكنهم قوم نحسبهم أهل إخلاص أخطئوا الهدى ، أرادوا حقاً يتعبدون به فأصابوا باطلاً ومخالفة ،
ولكن الذي يجعلني أقرنهم بمن سبق ذكره هو الإصرار على الخطأ وعدم قبول التراجع والنصح ..
وسبب ذلك ليس غروراً وعزة بإثم ، كلا ولكنه جهلاً مركباً تركيباً شديداً ..
إذ أنه تعلم شيئاً من القواعد العلمية ، مزجه بشيء من الحضور لبعض أهل العلم ، استفاد منه شيئاً من مسائل الفروع ، فظن نفسه الآن مجتهداً ، أخذ المسألة من أصلها ..
ولذلك إذا قيل له اتق الله قال : أنا كذلك ، فلم أقل بمسألة إلا ولي بها إمام ولا أقلد أحداً ، وقد نظرت في أدلتها .. !!
والواقع أنه لو راجع نفسه بنية اكتشاف الحق ، لرجع ، ولكن المراجعة بنية تثبيت ما استقر في النفس هي البلية العظمى لطالب الحق ..
لذلك فإني أظن إن علاج مثل هذه الحالات لا يكون بالوعظ في باب تعظيم القول على الله بغير علم . إذ أنهم يعتقدون أنهم على علم بالمسألة
ولكن العلاج هو التوجيه إلى اتهام النفس بالتقصير والعجز
فمن تعودت نفسه على مثل هكذا صفة تراه كثير التحرز من الوقوع في الخطأ ، كثير الرجوع والاعتراف بالخطأ إن وقع فيه ..
وتجد في نفسه قضية التصحيح مرافقة لقضية طلب العلم .. فلو وقع على جديد يعارض ما عنده مسبقاً سارع بمراجعة ما عنده ليرى أكان الصواب حليفه أم لا بد من التعديل..
ومن لا يستحي من التراجع هو من يستحق أن يقال عنه : عظيم القدر ..
وخلاصتها إنها طاعة تعرف بالمراقبة ..
وعن سبب هذه البلية فمن الممكن القول : أنها ترجع إلى أن للعلم الشرعي شهوة من الشهوات التي تحيط بطالبه المسلم ، لما فيه من حظ وافر للنفس يظهر في بروز الشخص وتصدره ، ولذلك فقد خشي كثير من السلف على أنفسهم من هذه البلية التي تصاحب التقدم والبروز في العلم .
حتى لقد ضربوا أروع الأمثال في الورع والتواضع وستر العمل وتجنب الفتية ما أمكن لهم ذلك ، والتزامهم تفويض العلم لله سبحانه ، حتى وُضِعَ لكل من سار على نهجهم القبول في الأرض ..
ولكن الأمر تغير في زمننا والله المستعان ، فلقد كثر في زمننا هذا أنصاف بل أشباه العلماء ،
وصار الطالب للعلم الشرعي – إلا من رحم الله - يُعَامِل حصيلته العلمية الشرعية معاملته للعلوم الدنيوية ، فيجعلها بمنزلة علوم الحساب . لابد من ظهور النتيجة بعد إجراء العملية ، من غير أن يصاحبه التقوى والورع والخوف من الخطأ ،
وهكذا تراهم يتسرعون في الفتية والرد على فتاوى العلماء الكبار بحجة عدم موافقتها لظاهر الدليل ولا تجد عنده أدنى حرج من فعله ذلك ولا يظن نفسه إلا محسناً وعجباً لأمرهم ويزيد العجب لمن عاشرهم وعاين فعلهم ..
فالعالم هو الأكثر خوفاً وتعظيماً وخشية وورعاً وإجلالاً لله تعالى
((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))
((وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ))
((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ))
إنها بلية وآفة العلم ،
الـتـعـالـــم
والذي يجر إلى الخوف من تفويض العلم لله خشية على هيبته أن تهز أمام من يعرفه .
ومن هنا دعتني نفسي أن أطرق أمثلة لإحدى هذه البلايا المصاحبة لطالب العلم في زمننا والتي عاصرتها وعايشتها لعلها أن تكون تنبيهاً ونصيحة لكاتبها قبل قارئها فعسى أن من تنبه لنفسه منها سمى عند ربه ورفعه بين خلقه ..
والله المستعان .
وأقدم هنا مقدمة من مجموعة نصائح أنصح بها نفسي وإخواني :
- لابد أن يكون المجتهد صاحب تقوى وخوف من الله عز وجل , لأن العلم المجرد إنما هو وعاء أجوف لا ينفع صاحبه بل قد يضره .
- لابد من اعتبار فتاوى السلف من الصحابة والتابعين ولو لم يوجد في المسألة دليل , لأن المفتي موقع عن ربه ، فالعمل بالأحوط مطلوب , لا البحث عن الرخص والتيسير بحجة عدم الدليل .
فلا يضع طالب العلم توقيعه بجانب توقيع السلف بحجة الترجيح لعدم الدليل والبراءة الأصلية. مالم يكن له سلف من السلف ..
- اعلم أن مستوى التحصيل العلمي يمر بطالبه على مراحل .. فمرحلة النشوة والجمع إذا لم يصاحبها تقوى وورع صار العلم الشرعي الذي يحمله بمنزلة علوم الرياضيات ...
قواعدٌ يُسَارُ عليها ونتيجة توافق القاعدة ,
وهذا ليس من العلم الشرعي في شيء .
لأن النتيجة هنا لابد أن توافق أمر الله عز وجل .. والقواعد إنما هي مُعِيْنَةٌ ووسيلة لا مقصد .
- فلا ينبغي لطالب العلم الصغير التصدي للإفتاء واستسهال الأمر لمجرد مطابقة السؤال لما درسه ...
فالصحابة كانوا يتوقون الإفتاء وعلى نَهجهم الربانيين من العلماء ، وإذا ازداد علم الرجل زاد ورعه وكثر تفويضه العلم لله.
- اعلم أن أوامر الله ونواهيه يكثر فيها الإطلاق والتعميم وذلك ليعْلَم من يخافه بالغيب , بالسر والعلن في نفسه وعند غيره .
فعلى سبيل التمثيل : لو أن أميراً من الأمراء أمر حواشيه بأمر وأطلقه فإنَّ مَنْ قَصَّرَ عن الأداء بحجة عدم وضوح المقصود يكن مُلاماً مغضوباً عليه ، بخلاف من احتاط لنفسه ولم يجعل عليه مدخلاً للتقصير ..
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ..
- ولذلك تجد بعض الفتاوى من العلماء الكبار أول ما تطرق الأسماع إذا بصغار الطلبة يسارعون بالاستنكار والرد محتجين بعدم الدليل ، من غير نظر في الفتوى وملابساتها ولوازمها ودواعيها ودخولها تحت القواعد الشرعية العامة ...
وإن فعل فسيعلم .. مدى دقة علم هذا الموقع عن ربه ، ومدى ما يحمل من توقير وإجلال لشرع الله ، ولو خالفناه في الفتوة ولكن مع الفارق .
- ولذا لابد من التنبه لهذا الأمر الذي يقع فيه صغار الطلاب عموماً , فليس المقصود من طلاب العلمالاجتهاد في طلب علوم الآلة وعلوم الاجتهاد، فهذه قد وصل لها المستشرقون من الكفار .
ولكن المقصود هو طلب تقوى الله وتعليم النفس الورع والزهد والإخلاص .
وأن يعرف أولاً وآخراً مدى ما تحمل من مسؤولية لو كانت تحت ملوك الدنيا كان الخطأ يثمَّن بالرقاب ، فيَحمد الله على كمال رحمته وعفوه سبحانه ، ويخشى أن يقع في موجب غضبه وسخطه .
- واعلم أن الله لعن الضالين من النصارى وذكر من أسباب غضبه عليهم (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) فكان غضبه عز وجل أن ابتدعوا ما لم يشرع ، وإن كان المقصود عبادته ، إذ أن الأمر والنهي والخوف والرجاء هو من أعظم أركان التذلل والخضوع والتعبد ، فكيف يُخَالَفُ في هذا ويدعي المخالف أنه يحسن عبادته ، إذ العبادة إنما تكون بما شرع سبحانه ولذا ينبغي الانتباه والتحري لمعرفة مراده جل جلاله ..
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ..... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ..... إن المحب لمن أحب مطيع
،،،
ترج النجاة ولم تسلك مسالكها ..... إن السفينة لا تجري على اليبس