ان هذا التأكيد الشديد على صلاة الليل انما هو باعتبار اثرها التربوي الخطير في حياة الانسان الروحية.. فهي وراء كونها عبادة وصلاة، لها ما للصلاة وللعبادة من آثار. تحتوي على اثرين مهمين، سجلتهما الآية المباركة :
(ان ناشئة الليل هي اشد وطئاً واقوم قيلا)
فقيام الليل بما فيه من مجاهدة للنفس، وتحكم في الهوى، ومعاناة في سبيل الوقوف بين يدي الله.. باعتبار مواجهة اتعاب النهار، وسلطان النوم، والشعور بالوحدة في جوف الليل. وباعتبار ذلك يكون قيام الليل اشد وطئاً، وأكبر اثراً على بناء الارادة، والصبر، وبناء الجهاز الحاكم في الشخصية الاسلامية.. وما احوج الانسان المؤمن في الدرب الطويل.. والمسيرة الصعبة وعناء الدعوة.. الى بناء الارادة، وتكوين ملكة الصبر.. الصبر الذي يكون لله، وعلى عبادة الله.. وما احوج الانسان القائد الذي ينتظر منه تحرير الامة من اسر الشهوة، والانحراف، والخضوع للدنيا والركون للطواغيت ان يتحرر من داخله.. وان يخرج عن اسر الكسل الى دائرة النشاط.. وقيود الشهوة الى دائرة القدرة، والارادة، والتجاوز.. وبالتالي ما احوجه الى هذه اللحظات القصيرة - من عمر الزمن - في جوف الليل.. ويؤكد فيها استعلاءه على كل شيء.. على كل شيء غير الله الكبير المتعال..
هذا من جهة.. ومن جهة اخرى، لما كانت عبادة الليل.. بعيدة عن مشتتات الانتباه، وتتخذ الطابع السري بعيداً عن أعين الناس فهي لهذا «اقوم قيلا»، واكثر تثبيتاً على الكلمة الربانية، كل التعاملات الشرعية التي يراها الناس منك قابلة لان تكون موقفاً اجتماعياً، وتوافقاً مع البيئة، التي ننفتح لها، وتتخاطب معها.. فاكتب ما شئت ان تكتب للاسلام، وتحدث ما شئت ان تتحدث عن دين الله.. واسع لاخوتك.. كل هذا واجب، وكله مطلوب.. وكله فيه نحو من التثبت، والابقاء على خط الله.. ولكن ليس هذا مثل عبادة البشر.. مثل العيش وحيداً، بعيداً عن اعين الناس.. وحيداً الا من الله.. وغريباً الا مع الله.. تلتقي به، تتلقى منه وتتضرع اليه. هناك فقط، واكثر من غيره يتجلى لك (الصدور) عن الله.. والجهاد في الله هي لحظات تحاسب موقفك بين يدي الله.. وتصفي حساباتك في اليوم السابق. وتؤكد له، ولنفسك انك فيه وبه وليس لك من قصد الا هو.. وهذا هو التثبيت، والتمحيص، وبناء الاخلاص، والصدور عن الله.
صراحة.. لا افهم من عبادات الاسلام شيئين الا للدعاة، الاعتكاف، وقيام الليل.. افهم الحج عبادة عامة يجتمع فيها المسلمون، ويؤدون شعائر الحج، ويستفيدون في الفكر والروح، وفي هذا يشترك الدعاة مع غيرهم من المسلمين وافهم الصلاة اليومية للمسلمين عموماً، كما افهم الصوم.. وغيره. في هذا الاطار، ولكن كلما تلح على الذهن صلاة الليل.. والاعتكاف يقترن ذلك بذكر الدعاة.. وتشكل في نفسي إنطباعاً انهما شرعا في الاسلام لهم، ولهم فقط وان كان لهما صورة تشريعية عامة تشملهم، وتشمل غيرهم.
الوحدة مع الله.. العزلة الموقتة، مراجعة الذات مع الله.. احوج ما يحتاج اليها الداعية.. ليكون داعية لله.. ولله ومن الله.. ليحكي لربه شيئاً من اتعابه في سبيله.. ليحاسب نفسه امامه عن اخطائه. ليستزيده، ويستهديه ليخلص له نيّته من كل ما يشوب نيات العاملين في العبادة ويداخلها من حب الظهور، والرغبة في التوافق مع الاجواء الخاصة، ليقول له يا رب. هذا جهدي، ومستطاعي، ومنك العون وبك الاعتصام من كل المغريات، والضغوط والمكاره، والاتعاب.
اعداد الرسول (صلى الله عليه وسلم) واصحابه من خلال قيام الليل
يحفل القرآن الكريم بالآيات النازلة من اجل اعداد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وتوجيهه لتحمل اعباء المسيرة، وطريق ذات الشوكة.. وقد عرفنا - فيما مر - ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) مر بثلاث فترات للاعداد..
(1) - الاعداد ما قبل النبوة من اجل تلقي الكلمة.. والوصول الى مستوى تلقي الوحي..
(2) - الاعداد ما بعد الوحي.. من اجل تحمل العبء الثقيل والقول الثقيل في الدعوة، والتبليغ، والمواجهة..
(3) - اعداده (صلى الله عليه وسلم) على استمرار خطه الجهادي.. الى ان توفاه الله تعالى.. ورفعه اليه، ولكل مرحلة من هذه المراحل طابعها، واسبابها.
المهم الآن.. ان المرحلة الثانية من الاعداد الروحي كانت الاعداد لتحمل القول الثقيل، وتحمل اعباء مسيرة الدعوة.. وهي التي تنزل من اجلها قوله تعالى :
(يا أيها المزمل قم الليل الا قليلاً نصفه، او انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)
«وكان الزاد فيها، ومادة العمل قيام الليل، وتلاوة القرآن. بالليل..» ان قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية، وسفاسفها والاتصال بالله وتلقي فيضه، ونوره، والانس بالوحدة معه والخلوة اليه، وترتيل القرآن، والكون ساكن كانماً يتنزل من الملأ الاعلى، وتتجاوب معه ارجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري، ولا عبارة، واستقبال اشعاعاته وايحاءاته، وايقاعاته في الليل الساجي.. ان هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل والعبء الباهض، والجهد المرير الذي ينتظر الرسول، وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل.. ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير.(4)
وما كان من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وصحبه الا ان امتثلوا، فقاموا الليل كما امرهم الله، نصفه، أو ثلثه، او ثلثيه الى سنة كاملة او اكثر حتى تورمت اقدامهم، وانتفخت ثم خفف الله عنهم بعد انتهاء فترة الاعداد.. كما تقول بعض الروايات.
-----------
من ال@