بسم الله الرحمن الرحيم
نظرات في أطروحات !!
(حول جامعة الملك عبد الله)
بقلم/ ناصر العلي
إن المتابع للحراك الفكري والشرعي الدائر حول جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ليصاب بنوع من الدهشة من ذلك التباين في آراء بعض الكاتبين أو المتحدثين من الإخوة الفضلاء والمشايخ النبلاء.
إن وجود التفاوت في الطرح، والتباين في التناول أمر طبعي الحدوث، تقتضيه الخلقة البشرية، والصنعة الإلهية.قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ*إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾(هود: 118، 119).
يمكن هنا الاستشهاد بعشرات المقالات المتميزة – فما أكثرها! - التي أشادتْ بالإنجاز في هذه الجامعة، وأنكرت بكل وضوح ما يحدث فيها من اختلاط، وذبّت عن العلماء، وكشفتْ عن سوءة الحملة الصحفية.
ولكن يأخذك العجب، ويتملكك الاستغراب من بعضٍ قليلٍ ممن تناول هذا الموضوع مقالاً في منتديات أو تعليقاً في برنامج فضائي أو خطبةً على منبر أو فتوى في إذاعة.
ولستُ هنا بصدد ذكر ما في أطروحات هؤلاء القلة من حسنات، فالأصل أن تكون كلها حسنات. ولكني سألقي بعض التساؤلات، وأُعْمل النظر في بعض العبارات، رجاء أن يعاد النظر فيها، حتى يتقارب الطرح الخطابي والكتابي لدى الإخوة الدعاة إلى لله تعالى، ولو كان ذلك عسيرا. لكنها محاولة لتقليل الهوة، ورأب الصدع ما أمكن إلى ذلك سبيلا.
(1) أحد المشايخ الفضلاء كتب يقول : ((ولا يمكن أن يطغى على فرحنا بها ما يرقص عليه المفتونون بالغرب وتقاليده من كونها جامعة مختلطة ؛ حيث إن كونها مختلطة ليس مما يفوق ما نرجوه منها من تصحيح منكر التخلف الحضاري وتصويب خطأ عجزنا عن التقدم العلمي , وهما (هذا التخلف والعجز) معصية كبرى ومنكر كبير , كانا سببين أساسيين لهزائمنا المتوالية أمام أعدائنا في الدين والطامعين في ثرواتنا . فإنكار هذين المنكرين وإزالتهما يتم بالقيام بواجب التقدم الحضاري والقوة العلمية , وهو ما نرجوه من جامعة بحجم (جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية) ... ثم قال : من أن هذه الجامعة يُرجى منها أن ترفع منكرا كبيرا هو أكبر من منكر الاختلاط, ألا وهو منكر التخلف الحضاري والعجز العلمي)) .
أطرح هنا تساؤلات:
· من حقنا أن نفرح بهذا الإنجاز، نعم، لكن ألن يعكر على هذا الفرح ويشغب عليه وجود الاختلاط؟!، ألن تتمعّر الوجوه حيال أيّ منكر وقع، ولو كان في مسجد؟!.
· (التخلف والعجز) معصية كبرى ومنكر كبير، نعم، سلّمنا بذلك. لكن هل هما حقًّا أعظم نُكْرًا من الاختلاط؟!، ولنا في الغرب عبرة. وأودّ الإشارة هنا - بعيداً عن مقال الكاتب - إلى خطلِ مقارنةٍ قد تنقدح في ذهن بعض الناس، ألا وهو: المقارنة بين مفسدتين، صغرى (الاختلاط)، وكبرى (التخلف والعجز)، فلا يرى سبيلا إلى فكّ التعارض بينهما إلا بارتكاب الصغرى درءًا للكبرى. هذا المسلك غير صحيح؛ لأن درء المفاسد جميعها متعينٌ ما أمكن. ثم إن الاختلاط مفسدة واقعة، والتقدم الحضاري والرقي العلمي مصلحة مظنونة مرجوة، فلا مسوّغ لتقديم الخير المظنون أو المبالغة بالعناية به على حساب المنكر الواقع، هذا على فرض التزاحم والتعارض بينهما، ولا تعارض هنا ألبتة. والحمد الله.
· أسباب هزائمنا المتوالية كثيرة، نعم، لكن هل حقًّا (التخلف والعجز) سببان أساسيان في هزائم المسلمين؟! ألا توجد أسباب أخرى أقوى تأثيرا من حالة العجز التي وصلت إليها الأمة؟! أليس هناك أسباب أكثر أساسية وأقوى سببية من هذين السببين كانت حقيقةً وراء هزائم المسلمين، ومنها المجاهرة بالذنوب كالاختلاط وغيره؟!
(2) أحد المشايخ الفضلاء أجاب في فضائية يقول: ((إنَّنا نحتاج في مجتمعنا السعودي وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي كثيرًا ما تتحدث عن التخلف، ونقصد منها أنماطًا، منها التخلف العلمي والمعرفي الذي هو محل إجماع من المحللين، أن هذا الوصف الذي توصف به المجتمعات الإسلامية، وهذا ما نستطيع أن نُوَصِّفه شرعًا بأنَّه إثم ومعصية وذنب ... ثم قال : مسألة أن يكون الاختلاط مقننًا أو مبرمجًا ومنظمًا في الجامعات أو في المدارس هو مما حمى الله به بلاد الحرمين، وما زالت كثيرة من البلاد تعاني ما تعاني بسبب فرض هذا الاختلاط كقانون لا يمكن أن يكون إلا في التعليم مثلاً... ثم قال ... لقد وجدت خلال هذه الحملة وتداعياتها أنه أصبح كأن هناك إلحاح أن كل أحد ينبغي أن يدخل في القضية, إما في هذا الصف أو ذاك، وهذا الاصطفاف مؤلم يبعد بنا كثيرًا عن معالجة القضايا بموضوعية واتزان وحكمة، وقد يترتب عليه أن يقع نوع من الحيف أو الجور على بعض الأطراف بدون أن يكون هناك مسوغ أو مبرر كاف...))
أطرح هنا تساؤلات :
· التخلف العلمي إثم ومعصية وذنب شرعا، نعم، لكن ألا يجب خلع ذات الأوصاف على منكر الاختلاط في التعليم؟! فقد خلتْ عبارات الشيخ حتى من الحكم الشرعي الصريح في الاختلاط!. فلماذا لا يكون الطرح منصفاً ومعتدلاً، فيُعطى الوصفُ الشرعي الحقيقي للاختلاط، كما وصفه سماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ في برنامج “مع سماحة المفتي” في قناة المجد الفضائية بقوله: ((إن الاختلاط في ميادين التعليم والعمل من الجرائم الخطيرة والمنكرات العظيمة وفتحِ الشر على مصراعيه وانتزاعِ الحياء وضعفِ الإيمان وقلة المروءة. العالم الغربي الذي غرب النساء وجردهن من أخلاقهن يعود الآن ليصحح أخطاءه وأوضاعه, فلماذ العالم الإسلامي يتواصى بأخذ ما تُرِك واستهجن ليطبقه على تعليمه؟! فعلى المسلمين أن ينكروا هذا الأمر ويعلموا أن الاختلاط والدعوة إليه والمناداة به والدفاع عنه من النفاق والحرب لله ورسوله)).
· الاصطفاف مؤلم، نعم مؤلم – {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}(آل عمران: من الآية140) - لكنه قدرٌ كونيٌّ لا مناص منه. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (التغابن:2). والله جل جلاله صنَّف الناس – كما في أوائل سورة البقرة – إلى ثلاثة أصناف، مؤمنين، وكافرين، ومنافقين.
فقضية الاختلاط هي مثار الخلاف والاصطفاف، فريق ينكره ويرفضه وينادي بتصحيحه، وفريق يسوِّغه ويشرِّعه ويشجِّعه، فأي الفريقين أهدى سبيلا؟!. لذا فإن هذا النوع من الاصطفاف قدرٌ شرعيٌّ حتميٌّ لتضاد الرؤى الشرعية، فإذا لم يوجد، فلا صراع حينئذٍ، ولكن الصراع والتدافع سنة إلهية، قال تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}(البقرة:من الآية251). وقال سبحانه: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}(فاطر: من الآية43). كما ينبغي ملاحظة أن استعمال المصطلحات الضبابية الموهمة مما لا يخدم القضايا الشائكة، بقدر ما تدخل القارئ أو السامع في دوامة المراد منها، فالإجمال وقت الحاجة إلى البيان ربما يسهم في تعميق المشكلة أكثر مما يسهم في حلها. والله أعلم.
(3) أحد المشايخ خطب من منبر يقول : ((فلتهنأ البلاد وليسعد العباد فعطاء متدفق وحلم متحقق في هذا المنجز التاريخي العظيم وإن واجب الجميع من القادة والعلماء وحملة الأقلام ورجال الصحافة والإعلام وشباب الأمة والغيورين على مصالحها أن يباركوا بإجماع واتفاق هذه الجهود الخيرة في ظل مقاصدنا الإسلامية وضوابطنا الشرعية وفيما يحقق الحفاظ على ثوابت الأمة وقيمها...ثم قال ... الخوض في ما لم يتبين لهم أمره والانسياق خلف الشائعات المغرضة والإثارة المتعمدة المحرضة التي يريد أعداء الأمة وخصوم المجتمع أن تتقاذف سفينتها الآمنة أمواج الفتن المتلاحمة وتيارات الأهواء المتلاطمة ...إنها جامعة رائدة في أهدافها سامية في مقاصدها نبيلة في غاياتها شاملة في أقسامها وتخصصاتها ... ثم قال : وليطمئن الجميع في حسن ظن بديع لأن هذا المشروع الحضاري العملاق في أيدي أمينة وربان مهرة بحمد الله فما هي إلا شجرة مباركة في دوحة غناء عظيمة تجعل من العقيدة والشريعة منطلقا لها في أعمالها لتحقق لها كل تطلعاتها وآمالها...))
أطرح هنا تساؤلات:
· الجامعة منجز تاريخي عظيم، رائدة في أهدافها، سامية في مقاصدها ...إلى آخر هذه الأوصاف، وليباركها الجميع بالإجماع، سلَّمنا، وباركنا، ولكن هل تتحقق المقاصد الإسلامية والضوابط الشرعية بقيامها على ما يعين على الاختلاط فيها، بدءاً من مجلس أمنائها ذوي الأيدي الأمينة، وانتهاءً بقاعاتها الدراسية بين كافة منسوبيها، ومرورا بوقائع اختلاط التي حصلت في أثناء حفل افتتاحها.. هل هذه إشاعات مغرضة أم حقائق مفروضة؟
نعم، نتمنى أن يطمئن الجميع، وأن يحسنوا الظن بالربان المهرة، لكن من خلال العمل الصالح، لا العصيان الفاضح.
· هل هذا الطرح الخطابي يعدُّ متزناً في معالجة الأمور؟.
فبينما يعيش الناس موجة سخط عارمة لتواطؤ عدد كبير من الصحفيين في هجومهم الساخر على فتوى الشيخ سعد الشثري، ومع التأكيد الصحفي على فكرة مشروعية الاختلاط بين الجنسين. لم نجدْ تحذيرا بكلمة واحدة من خطر الاختلاط والدعوة إليه في التعليم؟ ولم يتصدَ المنبر للدفاع عن بيضة العلماء ضد الصحفيين الساخرين من فتاوى كبار العلماء؟. فهل كان الطرح الخطابي موفّقاً في اتجاه التوازن والاعتدال والإنصاف؟.
وبالمناسبة لقد طارت الصحف جمعاء بهذه الخطبة العصماء التي لاقت لديهم ترحيبا كبيرا وسعادة غامرة وتحية إجلال وإكبار. فما دلالة هذا التأييد الصحفي؟!.
(4) لما سئل أحد المشايخ في برنامج إذاعي عن رأيه فيما ذكر عن الاختلاط في الجامعة، وعن دور العلماء، ودور الناس قال : ((دورنا نحن نعرفه، ودوركم هو السمع والطاعة والدعاء للملك)).
أطرح هنا تساؤلات:
· دور العلماء يعرفه العلماء، نعم معروف، وللعلماء دورٌ عظيمٌ، والسائل يريد أن يعلمه، ليس بالضرورة يريد أن يعرف ما سيقوله العلماء لولي الأمر، ولكن أن يعلم حكم الاختلاط. هل يجوز أن تلتحق ابنته بجامعة مختلطة أو لا؟.
· دور الناس السمع والطاعة، والدعاء للملك، نعم، فهذا مذهب أهل السنة والجماعة. ولكن من مذهبهم أيضاً: «إنما الطاعة في المعروف» حديث متفق عليه، و«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» حديث صحيح، رواه الإمام أحمد. نسأل الله أن يصلح ولاة الأمور، وأن يرزقهم البطانة الصالحة الناصحة، آمين.
* كلمة أخيرة : العلماء الربانيون الراسخون في العلم - وهم جَمٌّ غفير - أفتوا بحرمة الاختلاط في التعليم كالشيخ ابن باز وابن عثيمين والألباني وابن جبرين عليهم رحمة الله، وغيرهم كثير جداً على مستوى العالم الإسلامي. فحينما قال كبار أهل العلم كلمة الحق بكل وضوح في الاختلاط الواقع بجامعة الملك عبد الله، كالشيخ صالح الفوزان، والشيخ عبد الرحمن البراك، والشيخ عبد الله الركبان، والشيخ سعد الشثري، فإنهم لم يكونوا بِدْعًا من العلماء، كما أنهم لم يكونوا منساقين خلف الشائعات المغرضة!!، ولم يغمطوا الجامعة ويبطروا حقها من الإنجاز العلمي!!، ولم يكونوا خارجين عن حالة "الاصطفاف"، بل كانوا في صَفِّ الحق والدين ضدَّ كثيرٍ من الصحفيين المهاجمين لفتوى الشيخ الشثري؟. ولقد قاموا ببيان الحكم الشرعي في الجامعة، مع واجب النصرة للعلماء ولإخوانهم الدعاة، ومع الدعاء بالتوفيق والإعانة لولي الأمر، أفليس في هذا قيام بدور العلماء؟.
ولعله من المناسب أن أنقل كلمةً للشيخ العثيمين رحمه الله في أقسام العلماء، قال رحمه الله : (( إذا تدبرت أحوال العلماء وجدت أنهم ثلاثة أقسام: الأول: عالم ملة. والثاني: عالم دولة. والثالث: عالم أمة (عامة). أما الأول فعالم ملة: وهو الذي ينشر الملة ويبينها للناس ويعمل بها، ولا تأخذه في الله لومة لائم، لا يبالي بالدولة ولا بالعامة يفتي بما دل عليه الكتاب والسنة, سخط الناس أم رضوا، ولكن بالحكمة، فهذا هو العالم حقيقة, وهذا هو العالم الرباني. الثاني: عالم دولة: وهو الذي ينظر إلى ما تشتهيه الدولة، وماذا يقول الرئيس أو الوزير وما أشبه ذلك, فما أحله الرئيس فهو حلال, وما حرمه فهو حرام، فيحكم به ويفتي به، لو خالف نص الكتاب والسنة، ويحرف الكتاب والسنة لإرضاء الدولة. الثالث:عالم أمة: ينظر ماذا يريد الناس العامة، فيفتيهم بما يستريحون إليه، حتى ولو كان على حساب نصوص الكتاب والسنة، ولذلك تجده يتتبع الرخص لإرضاء العامة، ويقول: هذه مسألة خلافية، والأمر واسع. سبحان الله! الله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، فهذا والذي قبله آثمان وعلمهما وبال عليهما. يقول الله تعالى:{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} ما قال: ماذا أجبتم العامة؟ ماذا أجبتم الدولة؟ بل {مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ})). مستفادٌ من كتبه: شرح رياض الصالحين، ولقاء الباب المفتوح، واللقاء الشهري.
والله تعالى أعلم.