بسم الله الرحمن الرحيم
أخواني الكرام القصة اسماها الكاتب " دمعات في أحضان زوجتي "
وعنونت بـ ( مها ) الداعية الصغيرة, لأنها قصة تربوية رائعة ..
كنت اول الخارجين من صالة الطعام .. اتجهت مباشرة الى مقعدي في تلك الزاوية الهادئة من القاعة .. كان معظم الموجودين في الصالة من الاشبال الصغار .. لفت انتباهي شجار بين طفلين في الخارج .. كانا يتعاركان بشدة و معظم الاطفال حولهما يشيدون بأعلى أصواتهم : ياسر .. ياسر .. و يبدوا أن ياسر هذا كان هو المنتصر في العراك .. ابعدت الاطفال المتجمهرين و فصلت بين المتعاركين .. يبدو ان ياسر لم يبذل مجهودا كبيرا في العراك لفارق السن و ضعف خصمه الذي يبدوا انه قد نال كما هائلا من الركل و الضرب من ياسر و من غيره من المتجمهرين .. كان ابيض اللون مشربا بحمره و اثر العراك قد صبغت وجهه و اذناه خاصة باللون الاحمر و الاحمر الداكن ...
بينما انا افك العراك بينهما استعطفتني دمعتان رفضتا الخروج من عينيه حتى لا يقال له من اقرانه " صاح .. صاح .. " ... أخذت هذا الطفل معي و اتجهت الى مكاني في القاعة .. كان يبدو عليه الارتباك و الخوف فابتسمت في وجهه ليطمئن و قلت له بلطف : " وش اسمك يا بطل ؟ "
- " معاذ "
- " ما شاء الله معاذ بن جبل " ..
ضحك و مال برأسه و عينيه لا تنظر الي ..
- ضحكت و مسحت على رأسه و قلت : " بأي صف تدرس ؟ "
- " ثاني "
- " ما شاء الله .. تعرف قصة معاذ بن جبل ؟"
اومأ برأسه بالنفي و ابتسامته ترتسم على وجهه الجميل ..
بحثت عن شئ اشجع به هذا الطفل فلم أجد سوى قلمي الذي اهدته لي زوجتي قبل ايام .. أخرجته و هو أغلى عندي من قلبي و لكن أحتسبته عند الله في نفع هذا الطفل و تنشأته نشأة الابطال .. فملبسه لا يوحي الي بحرص أهله على تربيته التربية الصالحة .. عرضت له قلمي بطريقة مغرية .. قلت له : " اذا قرأت قصة معاذ بن جبل راح أعطيك أحلى من هذي الهدية " ... رفع عيناه و نظر الي و ما زالت ابتسامة الجميلة تزيد وجهه المشرب بالحمرة نظرة و جمالا ... كان عيناه تحدثاني بهمة تكسر الصخور و تثبت لي أنه سيفعلها و سيقرأ القصة بقلبه لا بلسانه فقط ... اخذ القلم مني و قلّبه بين يديه ثم رفع عيناه الي و كأنه يقول : " سآخذه بحقه " ...
رن هاتفي الجوال .. نظرت الى المتصل " دلال الغالية رعاها الله " .. قلت في نفسي " الطيب عند ذكره ... خفنا منها و هاهي تتصل " ...
- نعم
- السلام عليكم
- و عليكم السلام .. سمي
- أحمد .. تعشيت ؟ تقدر تمرنا اللحين ؟ ترى معانا ضيف الليلة
- كيف ؟؟ من ؟؟ طيب .. طيب ..
ذهبت الى زوجتي عند باب القاعة النسائية فخرجت و معها فتاة تبدو في السابعة عشر او الثامنة عشر من عمرها و عليها عباءة مخصرة ... ركبت زوجتي دلال في المقعد الامامي .. و ركبت تلك الفتاة في المقعد الخلفي .. سلمت دلال و هي تضحك و قالت : " معنا اليوم ضيف بيروح معنا البيت و ينام عندنا " ... قلت بصوت خافت " ياهلا و مرحبا " و آلاف علامات الاستفهامات تدور في رأسي عن هذا الضيف الغريب .. تحركنا باتجاه شقتنا الصغيرة و كانت دلال تسألني عن الزواج و الحضور و أجيبها و انا منشغل الفكر عنها بمن تكون هذه الضيفة!! .. اقتربنا من ركن العثيم ( سوبر ماركت ) فقالت لي دلال : " أحمد ياليت توقف الله يعافيك نبغى اغراض " .. اوقفت سيارتي فقالت لي : " عطني قلم أكتب لك الاغراض " ... تمنيت ان تطلب مني أي شيء سوى القلم و خاصة في مثل هذا الوقت فكيف أفهمها و معنا هذه الضيفة .. فارتسمت على وجهي علامات البراءة و بدأت انظر الى جيبي .. نظرت دلال الي جيبي بحدة و استغراب و قالت : " وين قلمك ؟ " ... آآآه الان وقعت في ورطة كيف بامكاني أن ابين لها ... نزلت من السيارة حتى لا تفقد أعصابها او تأخذها نزوات الغيرة فتنسى أن معنا هذه الضيفة ... اتجهت الى نافذتها و أخذت منها الاغراض المطلوبة و عيناها ترمقني بكل حدة و عتاب ... حمدت الله كثيرا على أن هذه الضيفة معنا .. مع انها ستحرمني من زوجتي هذه الليلة ...
وصلنا الى الشقة و نزلت زوجتي و ضيفتها في مجلس النساء و أغلقتا عليهما الباب .. اتجهت الى غرفتي و تجهزت للنوم و بقيت انتظر زوجتي لأخذ الاخبار منها .. فاستفهامات كثيرة تدور في رأسي .. من هي الضيفة ؟ و لماذا جاءت لتنام عندنا ؟ و كيف تلبس العباءة المخصرة ؟ و أشياء كثيرة ... بقيت جالسا في غرفتي أتحين خروج زوجتي من عند ضيفتها .. فكرت بأن أطرق الباب عليهما فتهيبت خروج زوجتي مغضبة و خاصة أنها غضبت لأنها لم ترى قلمها في جيبي ... جلست أفكر و أتأمل .. ما أجبننا نحن الرجال ؟ ندعي القوة و نطلب الاحترام من كل أحد و نبدوا و كأننا ليث غاب .. فما أن يجن الليل علينا حتى نرتجف وجلا من زوجاتنا و نردد في كل حين اللهم سلم سلم .. ذئاب في النهار و دجاج في الليل ...
" ولادة مها "
أخيرا خرجت دلال من عند ضيفتها و أسترقت النظر على غرفتي فوجدت النور ما زال مضيئا فأتت الي تستطلع الامر ..
سلمت و دخلت و علامات البشر و السرور تبدو على محياها ثم جلست بجانبي على السرير ...
بدأنا نتجاذب أطراف الحديث و كنت اسألها عن ضيفتنا ...
قالت : " و الله يا أحمد هالبنت أديم قصتها قصة عجيبة ..
يوم كنت بالقاعة رحت أغسل يدي و وقفت أطالع في المرآة ..
دخلت أديم و وقفت بجانبي و بدأت تنظر لي في المرآة ..
ابتسمت لها و كأني أعطيتها إشارة بالتقدم فقامت و احتضنتني و بدأت تبكي بكاء مرّا ..
تفاجأت من بكائها و بدأت اهدأها و اغسل وجهها بالماء إلى ان هدأت قليلا و ارتاحت بعض الشيء ..
خرجنا من المغاسل و كنت ممسكة بيدها و لم أكلمها ..
فقط كنت أنظر إليها و أتبسم و أشد على يدها ..
جلسنا على أحد الطاولات في آخر القاعة و بدأت أتحدث معها ..
بصراحة كنت خائفة من ان اسألها عن سبب بكاءها ..
لكن قلت في نفسي اذا هي فتحت الموضوع و الا لن افتحه أنا ..
يا أحمد هذي البنت تقدر تقول أنها قدوة قريناتها بالتحضر و التمدن و حركات المراهقات ..
فأهلها ما يقولون لها ( لا ) ابدا ..
و المال مغدق عليها ليل نهار ..
و مفتوح لها المجال على كيفها " ...
قاطعتها و قلت : " ايه انا مستغرب كيف ناس يخلون بنتهم تنام في غير بيتها ..
ما اتوقع ان فيه رب أسرة او أم تسمح أن البنت تنام في غير بيت أهلها ..
و غير كذا العباءة!! " ...
أكملت دلال حديثها و قالت : " اصبر تجيك القصة كاملة ..
اقولك مفتوح لها المجال على كيفها .. المهم البنت يوم جلسنا على الطاولة قالت لي :
" اني زهقت من نفسي و احس بضيق و انا ودي أتوب ودي اصير مثلك ..
ودي أكون سعيدة و مرتاحة ..
ودي أحس بطعم الايمان بقلبي .. ذبحني الفراغ " ..
و بدأت تخرج بعد ذلك كلماتها من قلبها بنبرة باكية ..
" ذبحتني همومي .. ودي أتوب و ما أقدر ..
أحاول اتوب بعدين ارجع لذنوبي .. ما قدرت أستحمل ..
أحس ان الله ما راح يتوب علي كل ما تبت رجعت ..
و الله زهقت من نفسي ..."
وانخرطت في موجة شديدة من البكاء ...
هدأتها و أتيت لها بكأس ماء بارد ثم أصررت عليها بشربه فشربت ثم توقفت عن اكمال حديثها حتى ارتاحت بعض الشيء ..
كنت أنظر اليها و أقول في نفسي الان وقعت المسؤولية عليك يا دلال ..
البنت تمد يديها اليك و تقول أنقذيني من ظلام المعاصي و انا أتهرب ..
لا و الله ..
سأحاسب على ذلك ان لم اساعدها ..
فما بعد أن تنطرح بين يديك و ترجوك أن تأخذها الى طريق الهداية أي عذر ...
عرضت عليها الذهاب معي الى البيت حتى نعالج وضعها بترتيب ففرحت كثيرا ..
فذهبت و اياها الى أمها و كنت اتوقع منها الرفض ..
فما أن عرضت عليها الأمر حتى قالت : " اذا أديم ودها بكيفها ؟ " ..
صعقت بهذه الحرية المفتوحة ..
فعلمت أن الخلل ليس بالفتاة بل ببيئتها و بيتها المتفلت ...."
قامت دلال بعد أن اعتذرت مني بالمبيت مع ضيفتها أديم هذه الليلة و أنا ما زلت أسبح في بحر افكاري ..
و قبل أن تهم بالخروج التفت علي و قالت : " احمد وين قلمك ؟؟ " ..
ضحكت لأنها لم تنسى موضوع القلم و أخبرتها بقصتي كاملة مع معاذ ...
أومأت برأسها و هي تبتسم و كأنها تقول : " ماشي .. بس محسوبة !! " ...
ذهبت دلال الى ضيفتها و كانتا قد اتفقتا على خطة يسيرون عليها ..
و اتفقتا على انه لابد لكل شئ من أساس ..
و لابد من ارادة قوية و عزيمة صادقة ..
و هذه الارادة و العزيمة لابد ايضا من ان تتربى حتى تكبر و تقوى فتثبت امام تيارات الهوى و الشهوات ..
فالذي يريد ان يخوض معركة لابد له من ان يتجهز لها بالتدريب و السلاح و العدة ..
كما أن التدريب يكون على شكل مراحل و مستويات حتى ينمو الجسم و يُبنى بناء صحيحا و قويا ..
ثم أكملوا برنامجهم ليلتهم تلك و نمت أنا وحيدا في غرفتي ...
مرت سنتان على هذه الحادثة و رزقنا الله بعدها بمولودة كالقمر أسميناها مها ..
كانت أديم من أول المهنئين لنا في المستشفى .. سبحان مغير الأحوال ..
أصبحت هذه الفتاة إحدى الداعيات إلى الله في بيتها و عائلتها و في أي مجلس تجلس فيه ..
أصبحت تبذل من الأموال لدور الخير أضعاف ما كانت تبذله في سبل الهوى ..
عندما علمت من دلال أن أهل القرآن هم أهل الله و خاصته أبت إلا أن تكون منهم ..
و عندما علمت أن خيرنا من تعلم القرآن و علمه بذلت كل ما تستطيع لتتعلم القرآن و تعلمه بمالها و نفسها ..
من رأى تلك الفتاة يرى أثر نور الإيمان في وجهها ..
قالت أديم ذات يوم لدلال بعد أن عتبت عليها خوفا عليها من الارهاق :
" يا دلال .. كل ما بذلت للخير ..
كل ما ارتحت و حسيت بسعادة في حياتي لم أذقها من قبل ..
كل لحظة ضيعتها في معصية الله الآن أتندم عليها ..
لأني وجدت الراحة و الطمأنينة و الأنس في طاعة ربي و البذل لدينه" ...
خرجت دلال من المستشفى بعد أن أمضت فيها عشرين يوما لمرض أصابها مع ولادة مها و بدأت صحتها تتحسن يوما بعد يوم و الحمد لله ...
كانت مها ريحانة قلبي و نبض فؤادي ..
يبتهج البيت بصوتها و شقاوتها ..
و كانت دلال تربيها على الأدب من أشهرها الأولى فأتعجب لصنيعها ..
طفلة رضيعة فكيف تتأدب !! ..
و كانت ايضا دائما ما تقرأ القرآن و هي تحملها ..
و تعلمها كلمات القرآن قبل أن تنطق ..
حتى أني ذات يوم دخلت البيت فسمعت دلال تقرأ القران بصوت مرتفع ..
فدخلت الغرفة استطلع الأمر فوجدت دلال قد اجلست مها أمامها و كانت مها للتو قد تعلمت الجلوس و أسندتها على أحد الوسائد حتى لا تسقط على ورائها ..
ثم جلست دلال أمامها و كانت تقرأ القرآن بصوت مرتفع و كأنهما تلميذ و أستاذه في حلقة تحفيظ ..
استغربت من صنيع دلال بمها فقلت :" ما شاء الله عليكم فاتحين دار تحفيظ .." ..
فقالت لي دلال و همة الأم المؤمنة تملأ عينيها : " أبغى مها تلبسنا تاج الوقار يوم القيامة بحفظها لكتاب الله" ...
فأكبرت هذه الهمة العظيمة في هذه المرأة الصالحة ..
وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الدنيا متاع , و خير متاعها المرأة الصالحة " ..
يتبع ....