د. حلمي القاعود
عرَفَت الدنيا "سيد بلال" بعد قتله، دخل إلى التحقيق سليمًا خرج ميتًا، شكَّت فيه الجهات الأمنيَّة أن يكون الفاعل في حادث كنيسة القديسين، فاستدعوه وحقَّقوا معه، ولكنه لم يمكثْ بعد التحقيق أكثر من يوم، وذهب إلى لقاء ربه.
الشعب المصري فهم المسألة على النحو المعتاد.. سيد بلال الذي يُوصف بأنه سلفي، كان من بين ثلاثمائة سلفي آخر تم استجوابُهم في غرفات التعذيب ليعترف بعضهم أنهم وراء التفجير الإرهابي ليلة رأس السنة، ولكن أحدًا منهم حتى الآن لم يعترف، ولم يتوصلْ جهاز الأمن إلى الفاعل.
لم يعد التعذيب أداة مناسبة، أو تقنية متقدمة، فقد يأتي أحدهم ويعترف من شدَّة التعذيب، ويتحمَّل ذنبًا لا علاقة له به، ولكنه عند المحاكمة تكون جراحه قد التأمت ونسي آلام التعذيب- ولا أحد ينساها أبدًا!- يعود وينكر، ويقول إنه اعترف تحت التعذيب.
هكذا يتصرَّف النظام منذ حكم العسكر بلادنا عام 1952م حتى اليوم، يبحث عن فاعل -ولو لم يكن حقيقيًّا- ليتخلص من أعباء المشكلة ويستريح، لم يتغير القوم أو يُفكِّروا في أساليب حديثة تجعلهم يطرحون الفرضيات التي يعملون على أساسها بذكاء واجتهاد ومعلومات، كما يفعل خصوم العرب والمسلمين، ولكن الفرضيَّة الأزليَّة لدى الأمن المصري هي الإسلام ومن ينتسب إليه، وفي الوقت ذاته تعمل ماكينة دعائية تخدم النظام والاستبداد في كل العصور، لا تكتفي باتهام أشخاص مسلمين، ولكنها تذهب بعيدًا وتتهم الإسلام نفسه وتراه سببًا رئيسًا من أسباب العنف والدماء.
بالطبع هناك فرضيات أخرى طُرحت في الأيام الماضية، وهي أن يكون الفاعل غير مسلم حرَّكه نصارى المهجر، ودعَّمه الموساد، ولكن هل يستطيع الأمن استدعاء غير مسلم في مصر المسلمة أو القبض عليه؟ الإجابة بالطبع لا؛ لأن غير المسلمين لهم "بابا" يستطيع أن يُحرِّك العالم من أجل واحدٍ من أتباعه، ويمكنه أن يُؤلِّب الدنيا كلها على النظام حتى لو كان المتهم قد اعترف بإرادته اعترافًا كاملًا بجريمته وتحدث عن طريقة تنفيذها.
والأعجب في الأمر أن صحف الطائفة والسلطة خرجت في اليوم التالي تسخر من فرضية اتهام غير مسلم بالجريمة، وترد الاتّهام على مَن أطلقوه بفاصلٍ من البذاءة والتهكم، وتصفهم بأنهم مثل ركاب الـ "توك توك"، مع أنهم أساتذة أجلاء، وسياسيون فضلاء، وتخرَّج على أيديهم كثيرٌ من الطلاب والأساتذة.. ولكن ماذا نقول في وطنٍ لا يعرف حكامه غير الإسلام عدوًا وخصمًا وهدفًا للتصويب دائمًا؟
في عهد جمال عبد الناصر كان الإسلاميون يجمعون كالعادة من غرف النوم، وكان زوار الفجر- وفقًا لمصطلح هيكل- يلقونهم في قعرٍ مظلمة ويحاكمون أمام محاكم عسكرية، لا تقبل استئنافًا ولا نقضًا، وكان مَن يموت تحت التعذيب يُلقى في صحراء مدينة نصر، ويُكتب أمامه: "المذكور فرَّ من المعتقل".
وفي عهد السادات تم إحراق الشرائط وتكسير السجون في مشاهد تلفزيونية، تشير إلى انتهاء عهد التنصُّت على المواطنين ومنع سجنهم أو اعتقالهم بغير حق، فضلًا عن تعذيبهم وفقًا لمنهج الغابة!
لكن السلطة لم تكتفِ بالقبض على مجموعاتٍ تبلغ المئات، بل جمعت الألوف في ليلة واحدة ووضعتهم فيما يسمَّى تحت التحفظ، بسبب كامب ديفيد، وكان التعذيب الوحشي من نصيب الإسلاميين وحدهم!
وفي العهد الحالي حدثت طفرة غير مسبوقة في بناء شيئين اثنين: السجون والكنائس، وللأسف فإن بعض المتكلمين على الشاشات التلفزيونيَّة لم يجد غضاضة أن يصف السجون والمعتقلات الجديدة بأنها "خمس نجوم"!!.. والمفارقة أن هذه السجون هي التي قتلت كمال السنانيري الرجل المجاهد المهذَّب، وخرج جلاد ليقول إنه قتل نفسه! وتسأله كيف؟ يقول إنه شنق نفسه في حوضٍ صغير بالزنزانة التي كان معتقلًا فيها! يا مثبت العقل والدين!!
قُتل كثيرون تحت التعذيب منهم المحامي صالح حارث مدني، ثم قُتل مسعد قطب وطارق الغنام، ثم أُلقي أحد الإخوان المعوقين في دمنهور من شرفة منزله إلى الشارع، ولم يكن آخر المعذبين الذين قُتلوا تحت الضرب خالد سعيد، ولكن جاء سيد بلال الذي يوصف بالسلفي الملتحي، وكأن السلفيَّة تُجيز قتله على يد الجلادين، وتسوغه لدى أجهزة الدعاية المجرمة، لقد ذهب الشاب سيد بلال الذي تجاوز الثلاثين إلى ربِّه وترك طفلًا في الثالثة من عمره وزوجة شابة ترمَّلَت في صباها ولا تدري شيئًا عن مستقبلها، ولا تعلم ماذا تقول لوليدها عندما يكبر ويسألها: كيف مات أبي؟
واضح أن سيد بلال لو كان غير مسلم، ما جرى له ما جرى، وما تضامنت أجهزة الدعاية المأجورة لتنفي التهمة عمن قتلوه، ولما سمع الناس أن سيد بلال دُفن ليلًا دون أن يشارك الناس في جنازته كالعادة، وأُمِر أهله أن يصمتوا وإلا فإن أوامر الاعتقال وفقًا للطوارئ جاهزة، وإن "سمعوا الكلام" فإن جوائز تنتظرهم: مال ووظائف وغير ذلك!
لو كان لسيد بلال "بابا" مثل غير المسلمين فهل كان سيحدث له الموت الوحشي؟ وهل كان هذا الموت الوحشي يمرُّ بسلام، وتصمت أجهزة الدعاية المسمومة المزوَّرة الكاذبة؟
لنفترض أن سيد بلال هو الذي ارتكب الحادث البشع، فهل يجوز لأحد أن يقتله قبل أن يقرر القضاء ذلك؟ لماذا صار المسلم رخيصًا إلى هذه الدرجة؟ ولماذا يكون رد الفعل ولولة وصراخًا إذا قام أحد أقارب الضحيَّة المظلوم بأخذ ثأره بيده؟ ماذا لو كان القتيل شقيقًا للجلاد أو ابنًا أو قريبًا هل يوافق على استنطاقه بالسياط وإن لم ينطق قتله؟ وإلى متى يتمُّ استباحة دماء المسلمين، وخاصة إذا كانوا ملتحين أو سلفيين؟ ولماذا تهيج الدنيا ولا تهدأ إذا فاز مسلم متدين في الانتخابات أو حتى تقدم للترشيح؟
نفهم أن أعداء الإسلام من الاستعماريين المتوحشين الصليبيين والغزاة النازيين اليهود، يتعاملون مع المسلمين على أنهم نفايات بشرية تجب إبادتها، وهم يقتلون الملايين ويعذبون أضعافهم في العراق وأفغانستان وفلسطين والشيشان؛ فماذا عن حكامنا من أبناء جلدتنا الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وبعضهم يتحلَّى بالمسابح في يديه: هل التعذيب من مسوغات دخول الجنة؟ هل القتل بغير حق يُقرِّب إلى الله؟ ما الفارق بين الإرهابي الذي يفجر في الظلام والجلاد الذي يفترس ضحيته مجردًا من كل حيلة ويسومه سوء العذاب؟ هل سيقال لنا إنه ابتلع لفافة بانجو فمات على الفور مثلما قيل عن خالد سعيد؟ هل يفعل اليهود والصليبيون مثل هذا بأبناء جلدتهم مثلما نفعل بأبناء جلدتنا؟ إن اليهودي أو الصليبي مهما كانت جريمته فإن كرامته مصانة حتى يوم إعدامه أو في خلال فترة السجن التي يقضيها.. أما نحن الذين قال لنا ربنا جل وعلا: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَه أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: من الآية 29)، فقد قلبنا الآية وصرنا رحماء بأعدائنا بل ننبطح أمامهم ونسترضيهم ونغالي في التذلُّل إليهم.
أما أبناء جلدتنا فما أقسانا عليهم! وما أبشعنا في التعامل معهم! وما أكثر وحشيتنا في تقدير إنسانيتهم وكرامتهم! لماذا يا سادة؟! هل نخلع الإسلام كي نأمَن على أنفسنا؟
مَن الذي سيرفع راية الاحتجاج على هذه الجريمة المعلوم فاعلها؟ هل ستقام الصلوات من أجل سيد بلال؟ هل ستتوالى الوفود من الكنائس والإبراشيَّات للعزاء في سيد بلال؟ هل ستلبس مذيعات التلفزيون ومذيعوه السواد من أجل هذا السلفي الملتحي؟ هل سيبادر فضيلة الإمام الأكبر ومعه المفتي وفضيلة الجنرال بالذهاب إلى منزل الضحية وتعزية أهله وأقاربه والإفتاء بحرمة التعذيب وقتل النفس بغير حق اعتمادًا على قوله تعالى: ﴿أَنَّه مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: 32).
هل يمكن لوطن يقتل أبناءه ولا يعاقب القتلة أن يتقدم إلى الأمام ويتطور؟ أعلم أن العبيد لا يستحقون الحياة، ولكن مَن قال إن الصمت على مثل هذه الجرائم التي تزور فيها الحقائق يمكن أن يؤدي إلى سلامٍ وأمان؟
على كلِّ حال: مَن يزرع يحصد، ومَن يزرع الشوك لا يحصد الورد، ومَن يزرع الحنظل لا يجني الياسمين، ومَن يبذر الدم لن يثمر إلا الدم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
منقول مع التحفظ على بعض المقال