د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه
مضى على انتظامي في الخطابة أربعة عشر عاما، وهي فترة كافية لتسجيل ما لدي من خبرة في هذه التجربة.
مهما تعلم المرء ودرس كيفية إعداد الخطبة، فلن يكون مثله مثل من نالها عن: خبرة، ومكابدة، ومعالجة طويلة. وليس المعنى غلق باب الاستفادة من السابقين، كلا، لكن الفائدة لا تكمل، ولا تحسن، ولا تتعمق إلا بالمكابدة، وحسب المستفيد من تجارب الآخرين أنه تقدم خطوات.
كيف تعد خطبة؟.
سؤال مهم لأمرين:
الأول: كونه يتعلق بأمر شرعي، فقد أمر الله المؤمنين بإقامة خطبة الجمعة، وأوجبها وفرضها.
الثاني: كونه يتعلق بعملية لها تأثير كبير في صياغة التوجهات والعقول.
أولاً: مشروعية الخطبة.
شرع الله سبحانه وتعالى للمسلمين عيدا كل أسبوع، يجتمعون فيه للصلاة وسماع الذكر، وهم في أحسن هيئة، متطهرين، متطيبين، خاشعين، كافين أيديهم وألسنتهم، سامعين، منصتين، كما جاء الأمر بذلك في نصوص معروفة، فاستماع الخطبة غاية، فإن الصلاة يجتمع لها كل يوم خمس مرات، لكن الجمعة امتازت بالخطبة، ومن هنا أمر الشارع وحث على حضور الخطبة، ورتب أجور كبيرة على التبكير، فقد روى أبو داود عن بسنده عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها) [في الطهارة، باب: الغسل يوم الجمعة]
وحرم من تأخر، فأتى بعد الشروع في الخطبة، من أن يكتب في صحيفة المسارعين.
فإذا تأملنا حرص الشارع على: تهيئة الناس، وإعدادهم لسماع الخطبة. أدركنا أهمية العناية بأمرها، وإتقانها، وأدائها على أحسن وجه ممكن. فقوم جاءوا متطهرين، متطيبين، خاشعين، في أدب وإنصات، لا يتحقق مثله في غير هذا الموطن، من حقهم أن يحترموا، ويقدروا، ولا يتحقق تقديرهم إلا بإسماعهم المفيد الجيد الحسن من الذكر والعلم. فقد أتوا طائعين، ولو شاءوا لكانوا من المتأخرين، فليس من المروءة والكرم مقابلتهم بكلام غير مفيد، أو كلام ممل، غير مرتب، لم يبذل فيه مجهود، وربما كتب قبل الجمعة بساعة !!..، فما أمر الله تعالى به يجب أن يتقن، فهو من القربات، وإتقان القربات يزيد في الحسنات.
ثانيا: أثر الخطبة في تقويم الناس.
أستطيع أن أقول وبثقة: إن المنابر هي المؤثر الأول في توجيه الناس.
ربما كان هناك من يرى وسائل الإعلام أشد أثرا، وأنا أوافقه على ذلك، بقيد:
- ما إذا كان ما يعرض فيها من جنس ما يطرح في المنابر.
نعم حينذاك يكون لوسائل الإعلام أثرا كأثر المنابر، لكن إذا كان المعروض في وسائل الإعلام فاسد الفكر والخلق، فلا، بل الغلبة للمنابر بلا ريب، وذلك: أن كل باطل فمصيره إلى الزوال، ولا بد، ولا يبقى إلا الحق، قال تعالى:
- "فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
- "قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب * قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد".
"بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق".
فالمنابر ليس فيها إلا الحق والإيمان، وهو الباقي، وأما غيرها فما فيها من باطل فلن يبقى، ولو اتبعه الناس فإلى حين.
أما ترى الناس إذا أرادوا الخير والنجاح والنجاة لأنفسهم، في: تفريج كربة، أو جواب سؤال، أو حل مشكلة. توجهوا إلى المساجد، وتركوا وسائل الإعلام وما فيها، إذا كان باطلا، وراءهم ظهريا؟.
فهذا حال الناس، يبحثون عن اللهو واللعب في وسائل الإعلام، أما الجد والانطلاقة الصحيحة والإيمان، فإنهم إنما يبحثون عنها في بيوت الله تعالى، حيث: المحاريب، والمنابر، وكراسي العلم. وهذه حقيقة ساطعة يجب أن نلتفت إليها لندرك حقيقة: أثر المنبر. فإنه المؤثر الأشد على قلوب الناس.
ولا أدل على هذه الحقيقة من: نجاح هذه المنابر في توعية الناس، واستنقاذ قطاع عريض منهم، من فساد كثير من وسائل الإعلام، حتى باتت مصدر قلق لكل من يعادي الإسلام، ولقد تمنى كبار النصارى أن يكون لهم منبر يجتمع الناس إليه كل أسبوع، كما للمسلمين.
إن الأثر الكبير للمنبر ينبع من: كون ما يلقى فيه، ويتلى عليه، إنما هو كلام الله تعالى، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كلام يدور حول ذلك.
ومعلوم أن خطاب الشارع يلمس الفطر مباشرة بلا واسطة، ومن دون حجاب، ويخاطب العقل بحجة واضحة، فإذا كان الكلام يمس الفطر مباشرة، ويحج العقل بأدلته، فلا ريب أنه سيكون المؤثر الأقوى على النفوس، وهذا سر تأثير الخطب أكثر من غيرها:
- إن فيها الصدق، وليس فيها الكذب.
- فيها الأمانة، وليس فيها خيانة.
- فيها حرارة الإيمان، وليس برودة الكفر.
- فيها المحبة، وليس فيها الكراهية.
- فيها الإرشاد إلى الخير، والتحذير والتبصير بحقيقة الشر.
- فيها الفضيلة، وليس فيها رذيلة.
- وكل ذلك يخترق الآذان، ويصل القلوب، ويخاطب النفوس بحساسية وشفافية.
* * *ها قد عرفنا طرفا من أهمية الخطبة، من حيث الشرع، ومن حيث أثرها، فإذا بان ذلك، فإن السؤال السابق يعود مرة أخرى ليطلب جوابه: كيف تعد خطبة؟.
نعم كيف تعد خطبة؟..
طريقة إعداد الخطبة.
أول ما يتبادر إلى الذهن عند طرح هذا السؤال: الطريقة التقليدية السائدة وهي:
- تحديد الموضوع المراد، ثم حصر أدلته من الكتاب، ثم من السنة، ثم تتبع أقوال أهل العلم، ثم ترتيبه على هذا النحو، ثم بيان حقيقته، وصوره، وأهميته، وفوائد الامتثال لما جاء فيه، وسلبيات إهماله، مع مقدمة وخاتمة.
لو ضربنا مثلا بموضوع الربا، فإن الطريقة المتبعة في الإعداد هي: إيراد أدلة تحريم الربا من القرآن، ثم من السنة، ثم أقوال أهل العلم، ثم بيان حقيقته وصوره، ثم الحكمة من تحريمه، وفائدة اجتنابه، وخطر التعامل به.
وهكذا في كل موضوع.. قد تختلف بعض النقاط، وقد تزيد وقد تنقص، ويقدم هذا ويؤخر هذا، بحسب الموضوع، لكن البنية الأساسية في جميعها واحد.
ووصف هذه الطريقة أنها تقليدية لا يعني بالضرورة ضعفها أو عدم جدواها، كلا، فقد تكون مفيدة، وقد لا يتيسر غيرها، وقد تكون في غاية التأثير، وذلك بحسب جودة الإعداد، ودقة العبارة، وحسن العرض، لكن هي على كل حال: طريقة منطقية، تقليدية، وترتيب سائد معروف عند أهل العلم وغيرهم. وهي أحسن الطرق في استيفاء نقاط الموضوع، وإعطاء كل نقطة حقها من الكلام والعرض. لكن:
هل الخطبة مختصة بهذه الطريقة ضرورة؟.. وهل يجب أن يكون ما يطرح فيها مستوفى النقاط غير ناقص؟.
الجواب: يبدو أن ذلك ليس واجبا. وليست الخطبة مختصة بتلك الطريقة، بل هي طريقة من الطرق، ومن الجائز اتخاذ طرق أخرى غيرها، ما دامت خالية من أي محذور شرعي، والعلة في ذلك:
أن الخطبة لا يشترط فيها أن تكون درسا علميا، يجب فيه الشرح والتفصيل والاستيفاء، بل قد تكون موعظة وتذكرة لا يشترط فيها إلا صحة الكلمة، وتحريك القلوب، لا يلزم فيها الاستيفاء والشرح، كما هو معلوم، فبالكلمة الواحدة والجملة والجملتين، قد تتحقق الموعظة ذات الأثر البالغ، ويحصل المقصود، وهذا مجرب معروف، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظ في خطبه، كما كان يعلم، في كلمات معدودة، قصيرة لا تتجاوز بضعة دقائق، لكنها مؤثرة، محركة للقلوب، مقومة للسلوك، يلقيها النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مسموع مرتفع، يشتد، وتحمر عيناه، كأنه منذر جيش، يقول: (صبحكم، ومساكم). [مسلم، الجمعة، باب: تخفيف الصلاة]
فنحن الآن بين نوعين من الخطب: الخطب العلمية، والخطب الوعظية.
وكلاهما مهم، والناس بحاجة إليهما، الخطب العلمية لها طريقتها الموصوفة بالتقليدية، كما بينا آنفا، والوعظية لا يشترط فيها ما يشترط في العلمية..
وبكلا النوعين كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وكانت خطبه تمتاز بالقصر، والكلمة الجامعة، ولم يكن يحرص على استيفاء نقاط ما يريد الكلام فيه، ولا اتباع طريقة الشرح والتحليل، بل كلمات معدودة جامعة.
إذن، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبع في خطبه طريقة الاستيفاء والشرح المفصل، فهذا دليل على عدم اشتراط تلك الطريقة، وهذا هو المطلوب.
لكن ههنا سؤال وهو:
- أليست تلك الخطب التقليدية خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه؟.
- وأليس من السنة قصر الخطبة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (قصر خطبة الرجل، وطول صلاته: مئنة من فقهه) [رواه مسلم، في الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة]، ومعنى مئنة: أي دالة على فقهه؟.
فالجواب:
أولاً: قصر الخطبة من المستحبات، بمعنى أن التطويل ليس محرما، وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بسورة ق~.
ثانياً: المقصود بالخطبة هو الذكر والموعظة والتعليم، فإن حصل ذلك بخطبة قصيرة، وبكلمات معدودة، جامعة، يفهمها الناس، فهو الأولى والأحرى والأفضل، لموافقة الهدي النبوي، لكن:
ماذا لو أن الخطيب لا يملك الفصاحة والبلاغة، والقدرة على حصر المعاني واختصار ألفاظها؟.
وماذا لو أن أذواق الناس وأفهامهم قد فسدت وتعطلت، حتى ما عادوا يفهمون إلا بالشرح والتبسيط؟..
يبدو أنه حينئذ لا مناص من الشرح والتفصيل والتبسيط، حيث إن المقصود من الخطبة هو حصول الموعظة والعلم، فإن كانت لا تحصل إلا بهذه الطريقة، فما حيلة المضطر إلا ركوبها، وعندئذ لا يبدو أن المطيل في خطبته، بالمقارنة بخطب النبي صلى الله عليه وسلم، مخالفا للهدي النبوي، وذلك لأن الغاية والمقصود لا يتحقق إلا بها، وقد كانت الوسيلة في عهد النبوة الاختصار والقصر، لكون الناس على فهم صحيح، وخطيبهم أوتي جوامع الكلم، أما وقد تغير ذلك، فامتنع حصول المقصود من الخطبة إلا بالشرح والتفصيل، فلا أظن من الصواب تخطئة هذه الطريقة، خاصة إذا عرفنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق~، والخطبة بها فيها شيء من الطول.
وتسويغ تطويل الخطبة عن الحد النبوي لا يعني التوسع في ذلك، بل ينبغي على الخطيب أن يجتهد في الاختصار قدر ما يمكنه، ويتخلص من داء التكرار المزعج، والشرح الممل حتى لما هو واضح.
ذلك من حيث قصر الخطبة وطولها، أما من حيث طريقتها، فإن الطريقة النبوية تقوم على طرح جزء من الموضوع والقضية المراد الحديث عنها، دون تقصٍ أو استيفاء، وهذا بخلاف الطريقة التقليدية القائمة على التقصي والاستيفاء.