بغيضةهي الحياة حين تلقي مراسينا في مينائك ، وتزداد بغضا حين نرسو أكثر من عام .. ولست أدري كيف أذكرك بتلميذك الذي لم تحبّه قط ، وما نزلت عليه رحمة من لدنك طوال فترة مكوثه لديك ، ما كنت أحسبني سأكتب لك يوما ، ولكني الآن في هذه اللحظة بأمس الحاجة إلى تحرير مشاعر السخط في نفسي . أتذكر حين كنت أغرقك بالأسئلة ؟ وأنت تتأذى مني وتتأفف من إلحاحي ، ما شعرتُ يوما أن أحدًأ يحب العلم مثلي ، لكنك كبّت كل رغبة في نفسي للاستزادة : ( اسكت يا ولد ، المنهج طويل لا تضيع وقتي ، اسئلتك تافهة ، أمثالك لن يفلحوا أبدًا ، ما فائدة هذه الأسئلة وانت غبي لا يمكنك أن تتفوق ؟ )
عباراتك جعلتني أمقتك من الأعماق ، وكرهت معك المدرسة ، ولم أصارح نفسي بهذه الحقيقة بل كنت أسعى دوما لبث روح الدعابة في حصصك بعد أن ملأتها علينا عبوسا وتقطيبا حتى سماك زملائي : عبوسا قمطريرا ، ولكن دعابتي كانت تنقلب ضدي !! فأصبحت في نظرك قليل الأدب ، وحتى
أهلي المساكين لم يفلحوا في تربيتي كما زعمت ، وأصمت صمت المهزوم ، فأنا يجب أن أكون أكبر من أن أستجدي العطف من أحد ، وأغلق على نفسي جروحها ، يمنعني إبائي أن أبوح بما في نفسي .. بمعاناتي ، وتظل الضغوط تنغرس في قلبي ، وانتظر يوما تنقشع فيه الغيمة السوداء من سماء حياتي ، فيحيلني الانتظار هيكلا يترقب بارقة الأمل على قارعة الطريق ، ولكني .. قررت .. رغم توقعاتي الأكيدة بأن قراري سيقتل كل طموحاتي ؛ تركت المدرسة ، بل قل : فررت منها ، والتحقت بالجيش مع حسرة أبي ونحيب أمي .. فلم أكن لأعود لشقوتي من جديد ، كنت سعيدا بقراري ، وسعدت كذلك في عملي .. كلما أثنى علي القائد تذكرتك ، تذكرت فظاظتك .. لم أسمع منك يوما كلمة شكر أو ثناء ! رغم تأكيدك الدائم أن الكلمة الطيبة صدقة ، ودارت الأيام ، وتعرفت إلى الكثيرين أمثالي من أنصاف المتعلمين ، كنا نتسامر في بعض الليالي في المعسكر نتحدث عن معلمينا ، كانوا يضحكون ملء أشداقهم عندما يتذكرون أيام الدراسة ، حتى ليستلقي أحدهم على ظهره عندما يتذكر "" المقالب "" التي كان يدبرها لأستاذه ، أما أنا !! فكانت الغصة تتربع في حلقي ، وأرجو عبرتي ألا تسيل فتحرجني أمامهم ، كنت تتمثل أمامي ببشاعة خلقك ، ونظرتك الجافة ، وألفاظك المجردة من كل معنى تربوي وشخصيتك المهزوزة .
حقيقة .. لم تكن لك أي هيبة في أعماقي ، كنت أضحك عليك في قرارة نفسي عندما كنت ترسلني إلى الأخصائي الاجتماعي عدة مرات خلال شهر واحد ، دائما تستعين في حل مشكلاتك بالأخصائي ، حتى ضاق بي وصرخ في وجهي مرة بعنف : " ماذا تريدني أن أفعل أكثر من ذلك ؟ انتهت كل لوائح العقـــاب والثواب المـــــسجلة لدي ، أم أن زيــارتك لنا تعجبك ؟"
أذكر يومها أنني أجبته ببرود : " وهل تظن أن ما فعلته يستحق زيارتي لكم ؟ " فتململ في كرسيه ثم تنحنح ، وتغيرت سحنة الغضب إلى رفق مفاجئ ، ثم وضع يده على كتفي ، وقال بحنان : " يا بني .. أستاذك عصبي ويجب أن تراعي كبر سنه وإرهاقه في سبيل تعليمكم ، اجتهد وحاول أن تكسب ودّه فهو طيب للغاية " ، فقلت في نفسي : " أقسم أنك تكذب على نفسك ، فأمثال هؤلاء لا يعرفون الطيبة ، ولا يودون كسب القلوب " .
سنون طويلة مرت على هذه الأحداث ، لكنها تتراءى أمامي كلما ذكروا المدارس والتعليم . أنا الآن متزوج ولي طفلان ابذل كل ما في وسعي لأحبب العلم إليهما ، وهما لله الحمد كذلك ، ولكن هاجس الماضي يرعبني .. عندما يعودان من المدرسة أحتضنهما بقوة لأمتص كل ألم قد يسببه أمثالك لهما ، وأسألهما عن أدق التفاصيل لأعرف كيف يُــرّبــى أبنائي ، وعندما يتناقشان في دروسهما الغضة أحن إلى مقاعد الدراسة ، فيتراءى لي شبحك من جديد ليقول بعنف " لا .
من ( هموم معلم ) لـــ : وحيدة أحمد عبدالله الملا .