صحيفة الوطن
قال علماء دين إن المصلحة العامة مسألة تقديرية وإن المواطنين قد يرون مصلحة لا يراها الحاكم، وربما يرى الحاكم ما لايراه العامة من الأمور، وأكدوا أن الكلمة الأخيرة للحاكم، لأن المسائل الاجتهادية التي تخص الدولة والولاية كلمة الفصل فيها تؤول للحاكم ولا يجوز أن تنتقص، وأضافوا أن اجتهاد الحاكم يُأخذ بالتسليم، وحذروا من تتبع أخطاء ولي أمر المسلمين ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات الحديثة، مبينين المفاسد الكبرى التي تحدث في حال إثارة الفتنة بين أوساط المجتمع مستشهدين بالأدلة والنصوص الشرعية.
النصيحة الشرعية بداية، هل تتبع أخطاء الحاكم ونشرها بقصد الإصلاح تعتبر وسيلة شرعية؟
وللإجابة عن هذا السؤال قال رئيس المحكمة الكبرى الشرعية السنية الدكتور ياسر المحميد، وقال: إنه يجب أن تكون المناصحة بالسر، وقد قال الشافعي (وجنبني النصيحة في الجماعة)، وأكد أن مناصحة ولي أمر المسلمين تندرج ضمن هذا الأصل، والواجب كذلك تبادل النصح بين الراعي والرعية واتخاذ الأسلوب الأنسب، وهو في هذه الحالة الإسرار بالمناصحة لئلا تضعف هيبة الحاكم وتضعف شوكة الدولة بذلك مما يؤدي إلى حدوث فساد كبير.
وعن السبب وراء اتخاذ هذا الأسلوب غير الشرعي في النصح من قبل البعض، قال المحميد: إن ما يحدث من تشهير علانية بقصد المناصحة لولي الأمر إنما يؤول إلى عاطفة غير مقرونة بحكمة أو أنه جهل بالأدلة الشرعية وسوء عمل بتطبيقها.
وعن هدي السلف في مناصحة ولي الأمر، قال المحميد: ان هدي الأولين في مناصحة ولاة الأمر أنهم كانوا يناصحونهم بالسر والخفاء، وأشار إلى أنه ليس من لوازم النصيحة أن تكون مقبولة أو مجابة مبيناً أن (الذمة تنتهي بتقديم النصيحة بالحسنى).
أما الدكتور موفق عبدالرزاق، فأكد أنه ينبغي على المسلم أن تكون لديه طاعة لولي أمر المسلمين وإن جلد ظهره وأخذ ماله وأشار إلى أن ذلك نصت عليه النصوص الشرعية، وقال: إنه لا يحق الاعتراض على تصرفات ولي الأمر أمام الناس ما دام هذا الأمر لم يكن كفراً بواحاً أو إظهاراً لضلالة أو إفشاءً لمنكر.
وعن الفئة التي يجوز لها توجيه النصح للحاكم قال الدليمي: إن النصح يختص بالناس الذي لديهم الخبرة وفصل قائلاً: (شريطة أن يكون هذا النصح بالتودد والتلطف وليس أمام الناس وإنما على انفراد، وإذا كان ذلك مع كافة الناس فكيف مع ولي الأمر.. هذا من باب أولى، بخاصة إذا لم يكن هناك مخالفة شرعية).
ومن جانبه، قال الرئيس بالمحكمة الكبرى الشرعية السنية الدكتور عبد الرحمن الشاعر إن الأحكام القضائية لا يجوز التدخل فيها من قبل الناس، لأن ولي الأمر أعطى ثقته بالقضاة والأحكام التي تصدر منهم، ونحن أيضاً نثق بالقضاة المؤهلين.
وأكد أن القاضي يحكم بناءً على الأدلة وبما يقتنع به وليس ذلك لعامة الناس لأنهم يحكمون بالعاطفة.
كلمة الفصل للحاكم فقط وما هو موقف عموم الناس من قرارات السلطة الحاكمة إذا رأوا أنها تخالف المصلحة العامة بزعمهم؟
يجيب الدكتور ياسر المحميد عن هذا السؤال قائلاً: إن المصلحة مسألة تقديرية، بمعنى أنه قد يرى المواطنون مصلحة لا يراها الحاكم، وربما يرى الحاكم ما لايراه العامة من الأمور، ولكن تبقى الكلمة الأخيرة للحاكم لأنه تقرر أن المسائل الاجتهادية التي تخص الدولة والولاية كلمة الفصل فيها تؤول للحاكم ولا يجوز أن تنتقص، وأضاف أن اجتهاد الحاكم يُأخذ بالتسليم وهذا قد تقرر في كتب الفقهاء.
وأكد المحميد أنه لا يمكن أن نترك أمور الدولة أمراً مساغاً لأي مجتهد من العوام، وقال: إذا علم هذا الأمر الدعاة وطلبة العلم ارتاحوا وبعدوا عن الاستفزاز الذي لن يحقق أي نتيجة إيجابية، وأضاف: يجب على ولي أمر المسلمين أن يبين لهم الأمور ويحقق العدالة والمساواة لكي لا يترك مجال للطعن والتذمر.
وفي ذات السياق، قال الدكتور موفق الدليمي: إنه قد يرى الإمام المصلحة في أمر ما فيتصرف على أساسها ولو تعرف الناس الآخرون على صلب وجزئيات القضية لتصرفوا مثل ما تصرف الإمام.
وتابع: لذلك ينبغي على الإمام أن يستشير أهل الفكر والحل والعقد حتى يكون التصرف أقل خطأ لأن المشورة إذا اجتمعت فإنها تجنب الخطأ في كثير من الأحيان.
وعن تناقل العامة لبعض الرسائل النصية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصالات يدور محور الحديث فيها عن انتقاد الحكام، قال الدكتور موفق عبدالرزاق: إن هذه الأمور لا يلقي لها الناس بالاً ولتبعاتها، ووجه لهؤلاء كلمة: (أنه ينبغي على كل واحد قبل أن يكتب أي كلمة أن يعتقد أنه مسؤول عن كل كلمة يكتبها يوم القيامة).
اشتغلوا بالكل وليس الجزئيات وعمن يقدر المصلحة العامة للبلاد؟
يقول الدليمي: إن تقدير المصلحة منوط بأهل العلم والدراية وليس لعموم الناس لأن الناس يتحدثون من خلال أهوائهم وعواطفهم، بينما أهل الحل والعقد ينظرون إلى المصلحة بعقولهم.
وأضاف: أنه ينبغي على المسلم أن يُسَلِّم لهم الأمر، ومن أراد النصح فليبتعد عن التشهير لأن التشهير يشتت الشمل ونحن أمة ينبغي عليها أن تتجه نحو التوحد والوحدة، لا سيما في هذه الظروف التي تحاك ضد بلادنا، وهؤلاء الأعداء يريدون أن يجعلون البلاد لقمة سائغة عبر نشر الفتنة بين مكونات المجتمع، فلنحافظ على الوحدة وعلينا الالتفاف حول القيادة الشرعية والسير خلفهم بما يرضي الله سبحانه.
واختتم الدليمي بقوله: ومن خلال منبر صحيفة الوطن أناشد الجميع أن يوحدوا الكلمة ويرصوا الصفوف وأن يشتغلوا بما هو أهم من ذلك وألا يشتغلوا بالجزئيات، لأن المستهدف هو الكل وليس الجزء، فلنحافظ على الكل من خلال وحدة الأجزاء وألا نضيع الكل (الوطن) من خلال الانشغال بالجزء، سائلاً المولى القدير أن يحفظ البلاد وقيادتها وشعبها ويسير بنا إلى مرضاته.
من قوادح العقيدة ولكن، هل تقصي الحاكم في بعض الجوانب يسوغ الخروج عليه أو عدم طاعته؟
يقول الدكتور ياسر المحميد في هذا الصدد: إن التقصير لا يسوغ الخروج عليه أبداً، وفصل بقوله: (الخروج عليه يعتبر من القوادح في العقيدة)، وزاد: الحاكم بشر يقول الحق ويخطئ، ويفعل الصواب والخطأ، ولو جوَّزنا الخروج عليه لما بقي حكم ولا ولاية.
وعن الآثار المترتبة على الخروج على الحكام، قال المحميد: إن ذلك يكون نتيجة للعيش في الواقع المؤلم والعاطفة الجياشة فإذا أُشبِعت مع أدلة النصوص الشرعية فإنها تنتقل من شبهة إلى شهوة.
بينما يرى الدليمي أنه في حال قصَّر الحاكم فإنه المسؤول، وإن اجتهد فأصاب فهو المأجور في كل حال، ولا ينبغي الخروج على الحاكم أو الإساءة إليه بمجرد صدور اجتهاد منه، فالخطأ في العفو أولى من الخطأ في القصاص.
أدلة النصوص الشرعية ومن جانبه، حذر الدكتور عبدالرحمن الشاعر من عصيان الحاكم والتشهير به وقال: إن ذلك من الغيبة المحرمة، واستشهد بمجموعة من الأدلة والنصوص الشرعية ذكر منها قول النبي صلى الله عليه وسلم (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وقوله: (تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فأسمع وأطع)، وقوله عليه الصلاة والسلام (اسمع وأطع في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك، وآثره عليك، وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك)، وقوله (اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم)، وقوله (اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمِلَ عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبه).
كما قال الشاعر معلقاً: إن علماء أهل السنة والجماعة أجمعوا على وجوب طاعة السلطان والأمراء في غير معصية الله، لما في ذلك من حقن للدماء وتسكين للدهماء، وقد وُعِدَ السامع المطيع بالثواب الجزيل، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من أكرم سلطان الله أكرمه الله، ومن أهان سلطان الله أهانه الله، واختتم بقوله: إن علينا الدعاء لما فيه خير ومصلحة ولي الأمر والعباد والبلاد وجلب المنافع الدنيوية والأخروية ودفع المضار الدنيوية والأخروية.