نخطئ خطاً فادحاً، إذا تصورنا أن إنصاف الدولة العثمانية مسألة تاريخية محضة، بل هي قضية تتصل بحاضر المسلمين ومستقبلهم، باعتبار أن تلك الدولة كانت آخر دولة إسلامية تضم أكثر البلدان المسلمة، فمنذ تفكيكها وتمزيقها أصبح للمسلمين 57دولة!!!
وها هي تركيا-مقر الخلافة العثمانية-تستعيد هويتها السليبة شيئاً فشيئاً، من براثن أعنف تجربة للتغريب القسري في العصر الحديث، وذلك على أيدي نفر من الساسة المحنكين من ذوي الجذور الإسلامية، وبخاصة أن سنوات حكمهم التسع المستمرة حتى اليوم، حققت نتائج مبهرة في ميادين السياسة والاقتصاد والإستراتيجيا.
لقد تعرض التاريخ الإسلامي كله لمحاولات تشويه متعمدة من أعداء الإسلام، لكن الدولة العثمانية حظيت بالنصيب الأكبر من تلك المساعي الخبيثة، فقد التقى على تزوير تاريخها غلاة القوميين من العرب والترك على غرار سادتهم الغربيين الحاقدين على دولة وقفت في وجه الأطماع الصليبية خمسة قرون وقفة عز تستحق التقدير والاحترام.ويضاف إلى ذلك الشانئون من أبناء المذاهب الباطنية المارقة، كالدروز والرافضة والنصيرية والإسماعيلية، الذين يمقتون كل دولة تقوم على أساس الإسلام وتهتدي بمبادئه وقيمه وأحكامه.
وإن كتاب (الدولة العثمانية/ عوامل النهوض وأسباب السقوط) من أفضل الكتب التي تنافح عن التاريخ العثماني المشرق بعامة من دون أن يكون هذا التاريخ فوق النقد، فهو في النهاية جهد بشري فيه الصواب والخطأ، وقد كان في الدولة العثمانية نقاط قوة وصلاح وموطِن ضعف وفساد.
ومؤلف هذا الكتاب القيّم هو الشيخ المؤرخ الليبي المجيد علي بن محمد الصلابي، صاحب المؤلفات الرائعة في التأريخ الإسلامي على امتداد عصوره الزاهية.
ولقد أحسن الرجل في بحثه المتميز الممتد على 992صفحة، ولعل أصدق تعبير عن ذلك جاء في مقدمة الكتاب، الذي يقدم صورة واضحة عن أصول الأتراك، وتاريخ اعتناقهم الإسلام ثم يعرض نماذج من إنجازاتهم المجيدة في التاريخ، ويستقي من بطون المصادر والمراجع تراجم لشخصيات تركية صهرها القرآن الكريم والسنة الشريفة وأسهمت في بناء الحضارة الإسلامية، ابتداء من السلاجقة وصولاً إلى الأتراك الذين قاموا ببناء الدولة العثمانية، مع تركيز مفهوم على زعماء هذه الدولة كعثمان الأول وأورخان ومراد الأول وبايزيد الأول ومحمد الفاتح،، ويبيّن الكتاب كيف حقق هؤلاء القادة الأوائل شروط التمكين، وكيف أخذوا بأسبابه المادية والمعنوية؟ وما هي المراحل التي مرت بها؟ وكيف كان فتح القسطنطينية نتيجة لجهود تراكمية شارك فيها العلماء والفقهاء والجنود والقادة على مر العصور.
ويوضح الكتاب حقيقة الدولة العثمانية وتألقها الحضاري الشامل، والأسس التي قامت عليها والأعمال الجليلة التي قدمتها للأمة؛ كحماية الأماكن المقدسة الإسلامية من مخططات الصليبية البرتغالية، ومناصرة أهالي الشمال الأفريقي ضد الحملات الصليبية الإسبانية وغيرها، وإيجاد وحدة طبيعية بين الولايات العربية، وإبعاد الزحف الاستعماري عن ديار الشام ومصر، وغيرها من الأراضي الإسلامية، ومنع المذهب الرافضي من التسلل إلى الولايات الإسلامية التابعة للدولة العثمانية ومنع اليهود من استيطان فلسطين، ودوره الخلافة العثمانية في نشر الإسلام في أوربا.
ولا يغفل المؤلف عن رصد سلبيات الخلافة العثمانية، والتي كان لها الأثر في إضعاف الحكم، كإهمالها اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم والحديث الشريف في أخر عهدها، وعدم الوعي الإسلامي الصحيح، وانحرافها عن شرع الله تعالى وأخيراً تأثرها بالدعوات التغريبية.
ويؤرخ الدكتور الصلابي حقيقة الصراع بين الدعوة الإصلاحية التي نهض بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب والدولة العثمانية، ويفضح الدور المشبوه الذي قام به والي مصر محمد علي لصالح بريطانيا وفرنسا في ضرب جهود الإحياء الإسلامي في مصر والحجاز والشام، وعن حركته التغريبية التي كانت خطوة نحو الانسلاخ عن المبادئ الإسلامية الأصيلة وهو يتحدث عن الدعم الماسوني الذي كان يوجه سياسات محمد علي المدمرة للأمة الإسلامية...
ويتكلم الكتاب عن فترة التغريب المؤسفة على يد السلطان محمود الثاني ثم ابنه عبد المجيد الذي كان خاضعاً لتأثير وزيره رشيد باشا الغارق في مستنقع الماسونية، حيث أدار هذا الوزير مع أنصاره عجلة التغريب الغرب في تنظيم الجيش، وعلمنة المجتمع، وتعزيز مركزية السلطة في استانبول والولايات، وصولاً إلى دستور مدحت باشا عام 1876م المنسوخ عن الدستور الفرنسي والبلجيكي والسويسري وهي دساتير وضعية علمانية.
وقد هيمن رجال التغريب على الدولة العثمانية في زمن السلطان عبد العزيز وعندما تعرض لكثير من مخططاتهم عزلوه ثم قتلوه.
ثم يحدثنا الكتاب النفيس عن الجهود العظيمة التي قام بها السلطان عبد الحميد خدمة للإسلام، ودفاعاً عن دولته، وتوحيداً لجهود الأمة تحت رايته، وكيف ظهرت فكرة الجامعة الإسلامية في عهده، ويفصل الكتاب في الوسائل التي اتخذها السلطان عبد الحميد في تنفيذ مخططه للوصول إلى الجامعة الإسلامية، كالاتصال بالدعاة، وتنظيم الطرق الصوفية، والعمل على تعريب الدولة، وإقامة مدرسة العشائر، وإقامة خط سكة حديد الحجاز، وإبطال مخططات الأعداء كالمتمردين الأرمن، والقوميين البلقان، وحركة حزب الاتحاد والترقي، والوقوف مع الحركات الانفصالية عن الدولة العثمانية وهي حركات هدامة حظيت بدعم قوي من اليهودية العالمية.
ثم يجلّي الكتاب كيف استطاع أعداء الإسلام عزل السلطان عبد الحميد، ويحدد الخطوات التي اتخذت للقضاء على الخلافة العثمانية وصناعة البطل المزيف مصطفى كمال الذي عمل على سلخ تركيا من عقيدتها وإسلامها، وحارب التدين، وضيق على الدعاة، ودعا إلى السفور والاختلاط، ولم يترك الكتاب الحديث عن بشائر الإسلام في تركيا ويشير إلى الجهود العظيمة التي قامت بها الحركة الإسلامية في تركيا بفصائلها المختلفة.
وفي نهاية الكتاب يهتم المؤلف بإبراز أسباب سقوط الدولة العثمانية من المنظور الإسلامي، ويتصدر تلك الأسباب: انحراف الأمة عن مفاهيم دينها، كعقيدة الولاء والبراء، ومفهوم العبادة، وانتشار مظاهر الشرك والبدع، وظهور الصوفية المنحرفة كقوة منظمة في المجتمع الإسلامي تحمل عقائد وأفكاراً وعبادات بعيدة عن كتاب الله وسنة رسوله.
ويتحدث الكتاب عن غياب القيادة الربانية كسبب في ضياع الأمة وخصوصاً عندما يصبح علماؤها ألعوبة بيد الحكام الجائرين، ويتسابقون على الوظائف والمراتب وغاب دورهم المطلوب منهم، وكيف أصيبت العلوم الدينية في نهاية الدولة العثمانية بالجمود والتحجر، وكيف اهتم العلماء بالمختصرات والشروح والحواشي والتقريرات، وابتعدوا عن روح الإسلام الحقة، ورفض كثير من العلماء فتح باب الاجتهاد، وأصبحت الدعوة لفتح بابه تهمة كبيرة تصل إلى الرمي بالكبائر، وتصل عند بعض المقلدين والجامدين إلى حد التكفير.، وتعرض الكتاب للظلم الذي انتشر في الدولة وبخاصة في الفترات المتأخرة، وما أصابها من الترف والانغماس في الشهوات وشدة الاختلاف والتفرق وما ترتب على الابتعاد عن شرع الله من آثار خطيرة، كالضعف السياسي والعسكري والاقتصادي والعلمي والأخلاقي والاجتماعي، وكيف فقدت الأمة قدرتها على المقاومة، وكيف استعمرها الأعداء وغزيت فكرياً، نتيجة لفقدها شروط التمكين وابتعادها عن أسبابه المادية والمعنوية، وجهلها بسنن الله في نهوض الأمم وسقوطها، قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (سورة الأعراف: الآية 196).
ويقول المؤلف في ختام تقديمه بتواضع أهل العلماء: (إن هذا الجهد المتواضع قابل للنقد والتوجيه وهو في حقيقته محاولة جادة للجمع والترتيب والتفسير والتحليل للأحداث التاريخية التي وقعت في زمن الدولة العثمانية والتي تأثرت بحركة الشعوب في صراعها العنيف فيما بينها نتيجة للاختلاف في العقائد والمناهج والأهداف والقيم والمثل؛ فإن كان خيراً فمن الله وحده وإن أخطأت السبيل فأنا عنه راجع إن تبين لي ذلك، والمجال مفتوح للنقد والرد والتوجيه).