الدنيا في قفص الاتهام
إليك يا من تهافت في حبك الكثير، ومات من أجلك الجم الغفير،وابتلي بك خلق كثير، صرعت ألبابهم،وضيعت آخرتهم،وخطفت قلوبهم، وأعميت عيونهم، وأصممت آذانهم،ورملت نساءهم ويتمت أطفالهم، حتى أصبح الشغل الشاغل الهيام بك، والبحث عن وصلك، والجري وراء ابتسامتك، وكل ذلك للاغتراف بغرفة من مزبلتك .
إليك يامن غُرست فيها الأحزان وسكنها الشيطان وذمها الرحمن وعوقب بها الإنسان... .
إليك يا معشوقة الملايين ابعث رسالتي هذه.
عجبا لك! لا... بل عجبا لمن يعشق شمطاء ذهب جلُ عمرها، فمراحلك ثلاث مرحلة الشباب ومرحلة الكهولة ومرحلة الشيخوخة، وأنت الآن في المرحلة الأخيرة، وفوق ذلك ما عرف عنك الوفاء قط أبدا وشيمتك الغدر والخيانة، تغدر بمن أحبك وأفنى عمره بحثاً عن ابتسامتك ، فتقلبين له ظهر المجن حين يظن أنه قد استطاع احتواءك.
نعم غريب بل عجيب أمر من يهواك ويتعلق بك وأنت التي أخبر عنك سيد البشر بأنك لا تساوي عند الله جناح بعوضة ولو كانت لك قيمة لما سقى كافر منك جرعة ماء.
ما أتفه تلك العقول، التي تسعى لنيل شيء أخس من جناح البعوضة.
أف لك ، ألك كل هذا المكر ؟ ألك كل هذه الخيانة؟ ألك كل هذه الحيل التي استطعت بها خداع ملايين البشر.
وأنت دار أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب وحرامها عذاب،
ما أخطرك! لقد أسكرت ألبابا من غير كأس .
نعم فعلت هذا ولا مجال للإنكار، فالأدلة واضحة وهاك نماذج :
ذلك الأب الذي يسير في واد وأبناؤه في واد آخر ، لا يعرف عنهم شيئا .
يهيمون في الأرض بلا مرب ولا رقيب ولا موجه، فيقعون في براثن الرذيلة، ويسيرون في أزقة الانحراف، يقودهم الشيطان إلى المواقع المجهولة والمصارع السيئة والسبب هو أنكِ قد أسكرتِه فأصبح يسير في دروبك هائماً دون هدى ولا وعي، وإلا لما ترك فلذات كبده عرضة للضياع.
انظري إلى ذلك الطبيب الذي خان دولته وشعبه بل وأمته،يحضر يوما ويغيب أطوارا يتقاضى أجرته على حساب الببغاء ومجموعة من الدراويش المساكين الذين لا يعقلون، يخدعهم بابتسامات كاذبة يشتريهم بدارهم معدودة فيغضبون الله عز وجل ليرضوه، ويعتزلزن الجماعة ليسروه يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه ويرضون لرضاه ويسخطون لسخطه ويضحكون لضحكه ويبكون لبكائه، جلهم إمعة إن احسن أحسنوا وإن أساء أساؤوا ورسالتي لأولئك:
إذا رأيت أنياب الليث بارزة*** فلا تظنن أن الليث يبتسم
خدعهم بقوله أنتم أصدقاء أوفياء والجهلة والرعاع يغرهم الثناء، هذا إن أحسنا الظن بهم وإلا فثمة طائفة أخرى تبيت أفكارا يوحيها إليها الشيطان، تظن أن بمقدورها تأليب الأحزاب وتسعير الناس ليقروا بالبهتان والكذب وليضيفوا إلى تاريخهم وصمة عار تبقى على جبينهم ما بقيت تلكم الأمهات اللواتي قدمن من(تهلا نجيح) في يوم بلغ البرد القارس فيه درجات تحت الصفر، وأصغر اولئك، ربما لا يقل عمرها عن ستين أو أقل أو اكثر بقليل، تضرب العجائز فراسخ وأميالا مشيا على الأقدام فيرجعن بخفي حنين، وإن غلبت النساء الرجال فعلى الأمة السلام.
انظري إلى حال ذلك التاجر الذي عششت الأرقام في عقله وسويداء قلبه، كلما جمع اشتد به الطمع حتى نسي كل شيء عدا كم باع وكم كسب، إن وقف مصلياً خطط لصفقة، وأخذ يعد ميزانيتها ونسبة الأرباح فيها، وإن دخل بيته فليس له سؤال عن الأبناء شغله الشاغل كم دخل وكم خرج.
ونسي أن هذا المال الذي يجمعه هو عرضة لوارث يأكله، أو لحادث يستأصله وإن استهلكه كان عليه في الحلال حساباً،وفي الحرام عقاباً، وهكذا هي زهرة المال الناضرة، وعقباها الخاسرة.
وتلك الزوجة التي تسللت إلى قلبها عن طريق صرعات الموضة والمظاهر الكاذبة فأضاعت أطفالها وضيعت الأمانة المسؤولة عنها ، بل أخذت تسير في دروب أبعدتها عن دينها وأشقتها في دنياها.
نعم أف لك فأنت ملعونة على لسان سيد الخلق، وأنت موصوفة باللهو واللعب في كتاب رب العالمين . فأي خير يأتي ممن حذرنا خالقها منها ؟ { فلا تغرنكم الحياة الدنيا}.
ما أغبى أولئك الذين يتنافسون عليها فيحملون فوق ظهورهم من حلالها وحرامها ما لا طاقة لهم به، ثم يتركون ما جمعوا وراء ظهورهم وليت الأمر يقف عند هذا بل يحاسبون عليه في قبورهم، أليس هذا قمة الغباء؟! .
لقد أعرض عنك أولو الأحلام والنهى أصحاب العزائم القوية والبصيرة النافذة ، والقلوب المضيئة ، فهاهو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول (مالي وللدنيا ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) .
وما الناس إلا هالك وابن هالكٍ وذو نسبٍ في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفت له عن عدوٍ في ثياب صديق
أما أنت أيتها الدنيا فتقلباتك تكفي لكي يزهد فيك العقلاء ( من سره زمن ساءته أزمان ) .
وقال عبد الملك بن مروان لسلمة بن زيد الفهمي: أي الزمان أدركت أفضل وأي
الملوك؟ فقال: أما الملوك فلم أر إلا ذاماً أو حامداً، وأما الزمان فيضع قوماً ويرفع آخرين وكلهم يذمّ زمانه لأنه يبلي جديدهم ويطوي أعمارهم ويهرم صغيرهم وكل ما فيه منقطع إلا الأمل. قال: فأخبرني عن فهم. قال: هم كما قال الشاعر:
درج الليل والنهار على فه م بن عمرو فأصبحوا كالرميم
وخلت دارهم فأضحت يباباً بعد عزٍّ وثروةٍ ونعيم.
وصدق من وصفك فقال: الدنيا أمل بين يديك،وأجل مطل عليك، وشيطان فتان، وأماني جرارة العنان، تدعوك فتستجيب، وترجوها فتخيب.
فيكفيك حقارة أنك خدعت كل محبيك : قارون لم تشفع له كنوزه، وفرعون لم يغن عنه جبروته ، وهامان لم ينجه مكره ودهاؤه وحيلته، وتلك القرى التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً تبدل حالها إلى النقيض وما أكثر العبر { لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }.
يا مَنْ على الدنيا يُجاذبْ وعلى زخارفها يُغاضبْ
لا تطلبنَّ وِصالَها ليست لصاحبِها بصاحبْ
وطوبى لمن صحب الدنيا وروحه معلقة بالملإ الأعلى.
ألا إنَّما الدُّنيا كأحلامِ نائِمِ وما خيرُ عيشٍ لا يكونُ بدائمِ
تأمل إذا ما نلتَ بالأمسِ لذَّةً فأفنيتها هل أنتَ إلاَّ كحالمِ
وما الموتُ إلاَّ شاهدٌ مثلُ غائبٍ وما النَّاسُ إلاَّ جاهلٌ مثلُ عالمِ
الدنيا وراءك والأخرى أمامك، والطلب لما وراءك هزيمة، إنما يعجب بالدنيا من لا
فهم له، كما أن أضغاث الأحلام تسر النائم .
واصرف ما أستطعت همتك عن هذا الظل القالص، والزخرف الغاطل، والعيش الزائل،إلى ما وعدك الله.
وإن داراً هذا من آفاتها وصروفها، لمحقوقة بهجرانها وتركها، خاصة ولا سبيل لساكنها إلى دار قراره إلا بالزهد فيها، والرضى بالطفيف منها كبلغة الثاوي وزاد المنطلق.
عبد الكريم القلالي
تمديقيت-ترجيست