الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ولد شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- في ربيع الأول سـ661ـنة هـ بـ"حران"، ثم انتقل مع عائلته إلى "دمشق" سـ667ـنة هـ، حيث نشأ وصار من كبار علماء عصره، وقد شهد عصره وجود عدة مدارس كبيرة ودور للحديث، وقد استفاد "ابن تيمية" ممن سبقوه، بل لا يبعد استفادته من بعض معاصريه خاصة مع شغفه بالعلم، ورجاحة عقله، وتطلعه للمعرفة.
منهج ابن تيمية:
وقد حفلت حياته -رحمه الله- بالجهود الكبيرة، إذ شهد عصره تفشي البدع والخرافات، وظهور التصوف، وانتشار الفلسفة، وعلم الكلام والمنطق، وتسلط المذاهب المخالفة لأهل السنة والجماعة وعقائد السلف، وجمود الفقهاء، ووجود التشيع، وقدوم التتار إلى الشام، وفوق ذلك كله غياب المنهج السلفي واندثاره؛ فشمر -رحمه الله- عن ساعديه بما أعطاه الله -تعالى- من قوة علم، وعلو همة، وشدة عزم؛ فتصدى لكل ذلك يواجه الحجة بالحجة، فيزيف الزائف منها، ويصحح ما فيه سوء فهم، ويجلي من الحقائق ما غاب عن الأذهان بفهم عميق وعقل راجح، حتى أقر له مخالفوه بذلك.
وقد أزال -رحمه الله- الركام عن منهج السلف الذي اندثر في الأمة في زمنه بفعل البدع، والفلسفة، وعلم الكلام والتصوف؛ فأحيا المنهج السلفي من جديد، ووازن به ما رآه في عصره من مخالفات، فكان دليله في إعادة الحق إلى نصابه، وإقامة الحجة من الكتاب والسنة ومخالفيه.
إن كثرة "خصوم ابن تيمية" تعطينا الدليل على تمكن الشيخ وغزارة علومه. وتعدد الميادين التي خاضها في سبيل إحياء المذهب السلفي أغضبت الكثيرين منه؛ فخاض معارك ضارية ضد خصوم أقوياء، وقد قاده ذلك إلى أن يسجن بـ"قلعة القاهرة"، ثم "الإسكندرية"، كما سجن بـ"قلعة دمشق" مرتين وتوفي بها سـ728ـنة هـ، وهذا يدل على شدة المعارك التي خاضها، وعجز خصومه عن مواجهته بالحجة، وتظهر السبب وراء شدة كتاباته ضد مخالفيه من المنحرفين عن منهج السلف.
لقد استوعب "ابن تيمية" نظريات وآراء مخالفيه، كما أحاط تمامًا بالكتاب والسنة، ثم جعل نصوص الكتاب والسنة هي ميزانه الذي يزن به الأفكار والنظريات، وصاغ منهجه على ذلك؛ لذا لم يُضعِّف قولاً أو ينصر رأيًا على آخر إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول د/ عبد الرحمن بن زيد في كتابه (السلفية وقضايا العصر) ص:48: "لهذا تلاحظ سيطرة النصوص على فكر ابن تيمية سيطرة دائمة، إنه يدور في دائرتها ويصطبغ بها مذهبه وفقهه وآراؤه كلها".
فلم يترك "ابن تيمية" -رحمه الله- ناحية من نواحي الدين إلا وعالجها في كتاباته، وأظهر رأي أهل السنة والجماعة فيها بعد استعراض حجج المخالفين وبسط ردود أهل السنة عليها، وقد استطاع "ابن تيمية" بهذا النهج أن يثبت بجلاء أن أهل السنة والجماعة أهل نظر ودراية إلى جانب أنهم أهل نقل ورواية، وأن آرائهم أصوب من آراء المتكلمين؛ لأنها توافق العقل والفهم السليم، إلى جانب أنها ميراث النبوة والوحي.
لقد نجح ابن تيمية في التأكيد على أن في الكتاب والسنة عامة مسائل أصول الدين من التوحيد والنبوة والصفات والقدر وغيرها، وأن آيات الله السمعية توافق الآيات العقلية ولا تعارض بينها.
ابن تيمية والتأويل:
فالتأويل المذموم هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح بغير دليل معتبر، وقد اعتمد المتكلمون على هذا التأويل المذموم في تحريف آيات الأسماء والصفات بدعوى مخالفتها للعقل، فينبغي تأولها لتوافق ما يقتضيه العقل، وهذا المسلك يخالف ما كان عليه سلف الأمة في قضية الأسماء والصفات، إذ أنهم تحاكموا فيها إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وطوعوا لها المفاهيم العقلية، ولم يثبت عن أحد منهم أنه عارض النصوص بعقله.
وقد ألف ابن تيمية في بيان قضية الأسماء والصفات عند السلف العديد من الكتب، وجمع نقولاتهم فيها نابذاً لكلام الخلف، ومن أشهر مصنفاته في ذلك (العقيدة الواسطية)، حيث صرح بمعتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، وبما وصف به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه في الأحاديث الصحيحة التي تلقاها أهل العلم بالقبول، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فهم بذلك وسط بين أهل التعطيل والتأويل، وبين أهل التمثيل والتشبيه.
وقد هاجم ابن تيمية المعتزلة، والأشاعرة، والباطنية؛ لصرفهم النصوص الشرعية عن ظواهرها، وبين أن كل صرف للنصوص عن ظواهرها خلاف ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن تبعهم، وأن سبيل التلقي في هذه القضية هو الكتاب والسنة على طريقة السلف؛ لذا وجب الكف عن التأويل، وبيَّن -رحمه الله- أن هذا إجماع السلف الذي لا يجوز مخالفته، وهذا الإجماع هو حجة على من بعدهم.
وعليه فالتأويل للأسماء والصفات بدعة، وبين أن مذهب السلف تفويض الكيفية مع إثبات المعنى، وأن من نسب إليهم تفويض المعنى أو زعم أن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية فقد جهل مذهب السلف، ولا تخلو مؤلفات وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية عن إجلاء هذه القضية بما لا يدع مجالاً للبس فيها، ومن طالع مصنفاته تبين له ذلك بوضوح.
ابن تيمية وعلم الكلام:
رفض أئمة السلف الخوض في علم الكلام ونبذوا أصحابه، وحذروا منهم، ولم يتعرضوا لهم؛ فلما اشتد منهج المعتزلة وصار له أنصاره واجههم أهل السنة بمنهجهم السلفي المبني على الاستدلال بالكتاب والسنة بفهم الصحابة والتابعين، وظهر أئمة المذهب الأشعري بمنهج رأوه وسطـًا بين منهج السلف ومنهج المعتزلة يجمع بين نصرة عقائد السلف بمنهج المتكلمين، فلم يسلم الأشاعرة من التأويل للنصوص مخالفين بذلك السلف، وقد واجه "ابن تيمية" الفريقين بنقد منهجهم القائم على تقديم آرائهم التي فهموها بعقولهم وقدموها على الأدلة النقلية؛ فألف (نقض المنطق) "الرد على المنطقيين"، وألف (درء تعارض العقل والنقل) (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، وغيرها من التصانيف.
وبيَّن "ابن تيمية" أن تأويلات هؤلاء من جنس تأويلات القدامى من المتأولين القائلين بخلق القرآن، وأن أهل الكلام لا يزالون مختلفين، واختلافهم من الاختلاف المذموم، وأما السلف فلا يوجد فيهم ذلك؛ ولهذا صرح العديد من أئمة المتكلمين في أواخر حياتهم أنهم لم يخرجوا من دراسة علم الكلام إلا بالقيل والقال، وكثرة الآراء، ومنهم من ترك كل ذلك ورجع إلى دين العامة، قال الجويني: "لقد خضتُ في البحر الخضم، وخليتُ الإسلام ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وهاأنذا أموت على عقيدة أمي!!"، وذكر عن الشهرستاني والرازي ما يشبه ذلك؛ لذا لم يكن غريبًا أن يذكر الواحد من علماء الكلام في المسألة عدة أقوال ليس فيها قول السلف الذي هو الحق في المسألة؛ لأنه لا يعرفه، وإذا ذكرت له النصوص التي تعارض ما ذهب إليه تأولها تأويلاً.
يقول الرازي في أواخر حياته: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق القرآن".
يقول ابن تيمية في (نقض المنطق) ص47: "ومن العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد، ليسوا أهل نظر واستدلال وأنهم ينكرون حجة العقل، وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم، فيقال لهم: ليس هذا بحق فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، في غير آية ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة، ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة من النظر والفكر والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ "النظر" و"الاستدلال"، ولفظ "الكلام"، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال".
ويقول ابن تيمية مبينـًا مكانة الدليل الشرعي وأنه لا يُعارَض بدليل عقلي، وذلك في كتابه (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) جـ1 ص116: "أن يقال كونه عقليـًا أو سمعيًا ليس هو صفة تقتضي مدحًا ولا ذمًا، ولا صحة ولا فسادًا، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم؛ وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لابد معه من العقل، وكذلك كونه عقليًا ونقليًا، وأما كونه شرعيًا فلا يقابل بكونه عقليًا وإنما يقابل بكونه بدعيًا، إذ البدعة تقابل الشرعة، وكونه شرعيًا صفة مدح، وكونه بدعيًا صفة ذم، وما خالف الشريعة فهو باطل، ثم الشرعي قد يكون سمعيًا وقد يكون عقليًا؛ فإن كون الدليل شرعيًا يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع فإما أن يكون معلومًا بالعقل أيضًا، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه؛ فيكون شرعيًا عقليًا، وهذا كالأدلة التي نبه الله -تعالى- عليها في كتابه العزيز من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة علي توحيده وصدق رسله وإثبات صفاته، وعلي المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية.
وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعيًا سمعيًا، وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه؛ ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: "العقليات والسمعيات"، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة، وهذا غلط منهم، بل القرآن دل علي الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه كما قال -تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذِن فيه فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات، والشارع يحرم الدليل لكونه كذبًا في نفسه مثل:
أ- أن تكون إحدى مقدماته باطلة فإنه كذب والله يحرم الكذب، لا سيما الكذب عليه؛ كقوله -تعالى-: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [سورة الأعراف:169].
ب- ويحرمه لكون المتكلم به بلا علم، كما قال -تعالى-: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء: 36]، وقوله -تعالى-: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 33].
ج- ويحرمه لكونه جدالاً في الحق بعد ما تبين، كقوله -تعالى-: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [سورة الأنفال: 6]، وقوله -تعالى-: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة الكهف: 56]". اهـ نقلاً من (قواعد المنهج السلفي) د/ مصطفى حلمي ط. دار الدعوة الثالثة ص:126-127.
وما قرره شيخ الإسلام فيما ذكرناه يبين المنهج بوضوح، وهو: "أن الدليل الشرعي لا يجوز معارضته بدليل عقلي، أو أن يقدم الدليل العقلي عليه".
ابن تيمية والصوفية:
نظر شيخ الإسلام ابن تيمية إلى التصوف على أنه نشأ بعد القرون الخيرية الأولى، وظهور سلطان الموالي من غير العرب خاصة الفرس، وبنيت الإرادات والعبادات، والأعمال من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على غير طريق النبوة، وأصبح المثل الأعلى هو الانقطاع عن الدنيا لعبادة الله -تعالى- ومناجاته، وانتهى الأمر بفكرة الحلول عند الحلاج، ووحدة الوجود عند ابن عربي.
ومع ذلك نرى ابن تيمية يثني على بعض الصوفية ممن رأى في طريقتهم التقيد بالكتاب والسنة كـ"الجنيد" و"الجيلاني"، وهذا من عدله وإنصافه -رحمه الله-، وتحامل على بعض الصوفية لما رأى منهم من الغلو في الصالحين وصرف العبادة للمقبورين، ووصف البعض منهم بالكفر والإلحاد كابن عربي، ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية تبين جهوده الإصلاحية في مواجهة التصوف، فبين رأيه في الولاية والأولياء كما في كتابه (الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن).
وأوضح رأيه في قضية التوسل كما في كتاب (الاستغاثة) ورده على السبكي، وبيَّن الزيارة الشرعية والزيارة البدعية للقبور كما في كتابه (الزيارة)؛ إذ أن ابن تيمية لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع، بل حض عليها، وكتابات ابن تيمية في هذه القضية ونقولاته عن السلف تبين مدى إحاطته بالنصوص الشرعية وأقوال أهل العلم، وإنه لم يخرج عنها، بل التزم بما التزموا به.
وتتجلى عدالة ابن تيمية ودقة نقده في تقييمه لـ"أبي حامد الغزالي" أحد رموز التصوف في عصره، فالغزالي خلط علومه بالفلسفة وعلم الكلام، واختار التصوف طريقـًا ومنهجًا، ولكنه نبه إلي انحرافات الفلاسفة وتصدى لمذهب الباطنية، وانتقد غلاة الصوفية كالحلاج، وأبطل دعوى سقوط التكاليف عند الإباحية من المتصوفة.
يقول د. مصطفى حلمي في (قواعد المنهج السلفي): "يرى شيخ الإسلام أن الإمام الغزالي استخدم العبارات الإسلامية النبوية في التعبير عن مقاصد الفلاسفة، وبمنهج تحليلي لمضمون كتبه يؤصل نظرياته وينقدها، فيرجع علم المعاملة والأمر والنهي إلى الصوفية والفقهاء، وعلم المكاشفة تتعدد مصادره، فتارة يسلك طريق الفلاسفة، وتارة المتكلمين الجهمية، وتارة أهل الحديث، وتارة يطعن على هؤلاء، ويذكر أقوالا مغايرة" ط. دار الدعوة الثالثة: ص147.
ويقول في موضع آخر: "وعندما سئل عن إحياء علوم الدين فأجاب بأنه تبع كتاب قوت القلوب -"من تأليف أبي طالب المكي الصوفي"- فيما يذكره من أعمال القلوب"، "ولكن أبا طالب صاحب كتاب قوت القلوب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد، وأجود تحقيقـًا، وأبعد عن البدعة على أن في قوت القلوب أحاديث موضوعة، وضعيفة، وأشياء كثيرة مردودة"، "والإحياء فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا: أمرضه الشفاء، يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة، وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة"، "لهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه" المصدر السابق: ص148-149.
ابن تيمية والشيعة:
أما الشيعة الرافضة فقد تصدى لهم ابن تيمية خاصة غلاتهم، فالباطنية من بني عبيد بن ميمون القداح الغلاة فقد برهن ابن تيمية على كذبهم بما اتفق عليه أهل المعرفة بالأنساب من أن جدهم كان يهوديًا ربيبًا لمجوسي، وهو وأهل بيته من أئمة الإسماعيلية الملاحدة وصفهم العلماء ومنعهم الغزالي بأن: "ظاهر مذهبهم الرفض والتشيع، وباطنه الكفر المحض"، وقد مكنت معرفة ابن تيمية بالتاريخ أن يكون على دراية بغلاة الشيعة الفاطمية، والإحاطة بأخبارهم وأسرارهم.
أما الشيعة الإمامية من الإثني عشرية فألف في الرد عليهم كتابه: (منهاج السنة النبوية)، وفيه الرد على كتاب "منهاج الكرامة" لابن المطهر الحلي، حيث أوضح فيه موقف أهل السنة والجماعة من قضية الإمامة، وبيَّن فساد مذهب الإثني عشرية في هذه المسألة، حيث أسهب في النقد، خاصة فيما يدعونه من عصمة الأئمة وحصر الأئمة في عدد معين ثابت، وأشار إلى غلوهم في الأئمة وتعظيمهم للمشاهد والأضرحة مع تعطيلهم للمساجد، كما أشار إلى اتباع متأخري الإثني عشرية للمعتزلة في العقليات، وأودع ابن تيمية معالم النظرية السياسية في الإسلام في كتابه (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) استكمالاً لقضية الإمامة كعقد مبايعة بين الإمام وأهل الحل والعقد في الأمة.
ابن تيمية والتعصب المذهبي:
وكما انتقد ابن تيمية المتكلمين من الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة انتقد كذلك المقلدين من الفقهاء أتباع المذاهب، الذين يخالفون ما صح من كتاب الله -تعالى- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- تقليدًا لأئمتهم.
لقد بلغ ابن تيمية أهلية النظر في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما حصَّله من أدوات الاجتهاد، وبما استوعبه من المذاهب والآراء؛ لذا نراه يخالف المذاهب الأربعة أحيانـًا، وبيَّن دليله على ما قدم من الآراء، ولام ابن تيمية أولئك الذين يتبعون الأقوال من غير معرفة أدلتها ووجه الحق فيها.
وحكى عن أئمة المذاهب الأربعة أنهم نهوا عن اتباع آراءهم إن كانت مخالفة لنصوص الكتاب والسنة، وبيَّن -رحمه الله- أن من وقع منه ما يخالف الكتاب أو السنة الصحيحة من الأئمة فله أعذار عديدة قوية ترفع الملام عنه، وأن الواجب تقديرهم وتوقيرهم، والإقرار بفضلهم، دون التعصب لأقوالهم، وله في ذلك رسالة باسم (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، فابن تيمية في الفقه كما في الاعتقاد يدور مع النص الشرعي حيث دار، يفتي بما يقتضيه، ولا يأخذ بما يخالفه؛ لذا يقول في الفتاوى: "إن أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم ليست حجة لازمة، ولا إجماعًا باتفاق المسلمين، بل قد ثبت أنهم نهوا الناس عن تقليدهم إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى مما قالوا به، بل إنهم أمروا أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة" (مجموع الفتاوى: ج20/10).
والتفقه في الدين يعني معرفة الأحكام بأدلتها، والاجتهاد يقبل التجزئة؛ فمن علم مسألة فهو بها عالم، ولا يجوز تضييق رحمة الله -تعالى- بالقول بغلق باب الاجتهاد لمن توفرت له أسبابه وأدواته، وبالإضافة إلى كل ما سبق من مجهوداته العلمية والإصلاحية فقد شارك في الجهاد في سبيل الله -تعالى-، فقد ولد ابن تيمية بعد تدمير التتار لبغداد بخمس سنوات، ودخولهم الشام، وعاصر حكم المماليك على مصر والشام في حكم الناصر محمد بن قلاوون، الذي واصل جهود الظاهر بيبرس صاحب الانتصار على التتار في عين جالوت، ومن مظاهر شجاعته الفائقة مقابلته للسلطان غازان "سلطان التتار"، وإقدامه عليه ومواجهته له، وخرج إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق ومشاركة المعسكر الشامي في مواجهة التتار.
وشارك ابن تيمية في هذه المعركة "معركة شقحب" سنة 702هـ، فقتل من التتار خلقـًا كثيرًا، كما كان لابن تيمية -رحمه الله- مجهوداته العملية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجمع -رحمه الله تعالى- بين العلم والعمل، والعبادة والدعوة، والنصح للأمة والجهاد معها -رحمه الله رحمة واسعة- وجزاه بفضله عن جهوده خير الجزاء.
<FONT face=Tahoma>