القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
خالد سعد النجار
لا يوجد مسلمًا كان أكثر حرصًا وحبًا وعلمًا وعملًا بالقرآن من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ملك حب كلام خليلة شغاف قلبه فكانت معه وقفات ووقفات وصفتها السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها الجامع "كان خلقه القرآن" استجابة لدعوة صادقة خرجت من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي».
حرصه صلى الله عليه وسلم على القرآن
قال تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:1619]. {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى . إلا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:6،7].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16]. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: "فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما"، فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ . إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16،17]. قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]. قال فاستمع له وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة:19]. ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه (1).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمر الوحي إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، فأمر بأن ينصت حتى يقضى إليه وحيه ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره فقد نزل القرآن لحكمة ولن يضيعه.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "جاءه صلى الله عليه وسلم هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي، وحفظ هذا القرآن وجمعه وبيان مقاصده.. كل أولئك موكول إلى صاحبه ودوره هو، هو التلقي والبلاغ فليطمئن بالًا وليتلق الوحي كاملًا، فيجده في صدره منقوشًا ثابتًا.. وهكذا كان.. فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل.. أليس من قول الله؟ وقول الله ثابت في أي غرض كان؟ ولأي أمر أراد؟ والإيحاء الذي تتركه هذه الآيات في النفس هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن وحيًا وحفظًا وجمعًا وبيانًا وإسناده إليه سبحانه وتعالى بكليته..
ليس للرسول صلى الله عليه وسلم من أمره إلا حمله وتبليغه ثم لهفة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه وأخذه مأخذ الجد الخالص، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية وكلمة كلمة يستوثق منها أن شيئًا لم يفته، ويتثبت من حفظه له فيما بعد!" (2).
ويقول رحمه الله تعالى: "بعدئذ تجىء البشرى العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته من ورائه {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ..} [الأعلى:6]. وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول صلى الله عليه وسلم: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ..} [الأعلى:6]. فعليه القراءة يتلقاها عن ربه، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه، فلا ينسى ما يقرأه ربه. وهي بشرى للنبي صلى الله عليه وسلم تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه، الذي كان يندفع بعاطفة الحب له، وبشعور الحرص عليه وباحساس التبعة العظمى فيه إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه، وتحريك لسانه به خفية أن ينسى حرفًا منه..
حتى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأن ربه سيتكفل بهذا الأمر عنه، وهي بشرى لأمته من ورائه تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة فهي من الله والله كافلها وحافظها في قلب نبيها، وهذا من رعايته سبحانه ومن كرامة هذا الدين عنده وعظمة هذا الأمر في ميزانه، وفي هذا الموضع كما في كل موضع يرد فيه وعد جازم أو ناموس دائم يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهية من وراء ذلك، وعدم تقيدها بقيد ما، ولو كان هذا القيد نابعا من وعدها وناموسها فهي طليقة وراء الوعد والناموس ويحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كل موضع ومن ذلك جاء قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:7]. فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى ليظل الأمر في إطار المشيئة الكبرى ويظل التطلع دائما إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها ويظل القلب معلقا بمشيئة الله حيا بهذا التعلق أبدًا" (3).
الحب النبوي للقرآن والشغف به:
ما قام أحد بالقرآن قيام رسولنا صلى الله عليه وسلم وما تدبره أحد تدبر رسولنا صلى الله عليه وسلم، وما بكى أحد من تلاوته أو استماعه ما بكى سيد الخائفين، وما اقتدى بهديه أحد اقتداء سيد العالمين، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن" (4).
فعن حفصة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها" (5).
وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت: "كنت أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي، يرجع القرآن" (6).
قال الحافظ في الفتح: "هو تقارب ضروب الحركات في القراءة وأصله الترديد، وترجيع الصوت: ترديده في الحلق، وقال أيضًا والذي يظهر أن في الترجيع قدرًا زائدًا على الترتيل"، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة: "معنى الترجيع تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة" (7). وقال المناوي: "وذلك ينشأ غالبًا على أريحية وانبساط" (8).
ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحصل له من ذلك حظ وافر، قال النووي: "قال القاضي عياض: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها. قال أبو عبيد والأحاديث الواردة في ذلك محمولة على التحزين والتشويق".
قال واختلفوا في القراءة بالألحان فكرهها مالك والجمهور لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع والفهم، وأباحهما أبو حنيفة وجماعة من السلف للأحاديث، ولأن ذلك سبب للرقة وإثارة الخشية وإقبال النفوس على استماعه، قلت -أي النووي-: "قال الشافعي في موضع: أكره القراءة بالألحان، وقال في موضع: لا أكرهها". قال أصحابنا ليس له فيها خلاف وإنما هو اختلاف حالين فحيث كرهها أراد إذا مطط وأخرج الكلام عن موضعه بزيادة أو نقص أو مد غير ممدود، وإدغام ما لا يجوز إدغامه ونحو ذلك. وحيث أباحها أراد إذا لم يكن فيها تغير لموضوع الكلام والله أعلم (9).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علىّ، قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت النساء حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. قال لي: كف أو أمسك فرأيت عينيه تذرفان» (10).
وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال:" أتيت رسول الله وهو يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" (11). وقال صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب» (12).
في جوف الليل:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلًا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم» فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال سمع الله لمن حمده ثم قام طويلا قريبا مما ركع ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى» فكان سجوده قريبا من قيامه" (13).