الشيخ / فريد مناع – من كتابه " يا له من دين لو أن له رجالاً " 03 محرم, 1432
في مجلس من مجالس الساعة الإيمانية جلس الفاروق عمر خليفة المسلمين رضي الله عنه – وهو يومئذ يحكم أقوى دولة على و جه الأرض – مع نفر من أصحابه الميامين يتسامر معهم تسامر الإيمان فقال لهم عمر : تمنوا.
فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم فأنفقها في سبيل الله ، فقال : تمنوا ، فقال أخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبا فأنفقه في سبيل الله، قال: تمنوا، قال أخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت جوهراُ أو نحوه فأنفقه في سبيل الله، فقال عمر: تمنوا ، فقالوا: ما تمنينا بعد هذا.
قال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل ، وحذيفة بن اليمان ، فأستعملهم في طاعة الله.( 1).
لله دره من محدث ملهم! ارتشف من معين مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم فزاده الله فقها وبصيرة ، لقد علم الفاروق قيمة الرجال ، وأيقن أن رجلا وحدا يستطيع أن يبني أمة لو صحت رجولته، وأن ذهب الدنيا كله لا يستطيع أن يؤثر في واقع الأرض كتأثير رجل حقيقي ، كما أن ينبغي أن يكون الرجال.
* قصة الإسلام:
ولِمَ لا يفقه عمر رضي الله عنه ذلك الفقه الدقيق؟! وقد كان واحداً من هؤلاء الرجال العظماء الذين كتبوا بدمائهم وبذلهم أخطر وأهم فصل من فصول قصة هذا الإسلام العظيم ، تلك القصة التي يرويها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدايتها ، فيقول فيما يرويه عن ربه: " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب." (2)
وهكذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقدم نور الهداية إلى العالمين وينقذ البشرية جمعاء ن مقت الله تعالى وغضبه، يوم أن نظر الله جل وعلا إلى الأرض فما وجد أزكى ولا أطهر من قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فاصطفاه الذي يعلم أين يجعل رسالته ليكون رسوله إلى ذلك العالم الذي يغط في ظلام الجاهلية.
واختار معه ثلة من أفذاذ الرجال ليكونوا حملة للنور ومشاعل للهداية وجنداً في جيش الإسلام يحملون للعالم كله العدل والرحمة ويقيمون حضارة النور التي تصل الأرض بالسماء ، وتعيد من ضل من البشر إلى حظيرة الإيمان.
يصف لنا ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيقول:" إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ؛ فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه." ( 3)
وفي غضون خمس وعشرين سنة ، وبعد أن استقرت حقيقة النور في قلب تلك الثلة من الرجال التي رباها سيد الرجال محمد صلى الله عليه وسلم على عينه الشريفة تكونت نواة أعظم دولة وجدت على وجه الأرض ، وانطلقت جيوش المسلمين تفتح البلاد وتعلي راية التوحيد ، وتعيد للإنسان كرامته بعد أن أضاعتها جاهلية الكفر وظلمة وظلامه.
فسقطت أمبراطوية فارس وتبعتها إمبراطوية الروم، وبزغت شمس حضارة الإسلام لتشرق على العالم كله وتعطيه من دفئها ونورها وحنانها ، تماما كما وصف ربعي بن عامر رضي الله عنه ذلك المشهد لرستم قائد الفرس ، لما قال له : ما الذي جاء بكم؟ فقال ربعي: ( الله ابتعثنا والله جاء بنا؛ لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.( 4)
ونَعِمَ المسلمون بل العالم بأسره بالأمن والرخاء في ظل هيمنة شريعة الإسلام على العالمين ، بعد أن انتصر المسلمون في ميدان الحضارة والعلم ، كما انتصروا من قبل في ميدان الجهاد والاستشهاد ، فأسسوا للعالم كله نهضة علمية حضارية غير مسبوقة ، جعلتهم قادة العالم بلا منازع ، في وقت كان العالم كله لا يزال يعيش في جاهلية القرون الوسطى ، إلا من استنقذه الله بالعيش في ظلال دولة الإسلام الوارفة.
وهكذا تحققت رسالة أم الإسلام التي أوجبها ربنا تبارك وتعالى على هذه الأمة من قيادة للعالم بمنهج الهداية الربانية ، يوم أن قال عز وجل:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"[ البقرة:143 ]
ثم دار الزمان دورته، وتحقق ما كان يخشاه فاروق الأمة ، يوم أن خرج إلى الشام ليستلم مفاتيح بيت المقدس ، بعد أن فتحتها كتائب رجال المسلمين ، فقال: ( إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام ، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به؛ أذلنا الله ). ( 5)
فانحرف المسلمون عن سر قوتهم وعزتهم ، وأداروا لشريعة ربهم الظهور فحقت عليهم سنة ربهم:" ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "[ الأنفال:53]
وسقطت راية قيادة البشرية من أيديهم ، لتقع في أيدي من لا خلاق لهم ليذيقوا البشرية عامة والمسلمين خاصة سوء العذاب.
وتحققت نذارة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال:" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.."، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال:" بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله ، وما الوهن؟ قال:" حب الدنيا وكراهية الموت". (6)
فلكم يعاني المسلمون اليوم من مرارة الذل والضيعة والهوان؟ حتى إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ، وإنا لما حل بأمتنا لمحزونون ، نعم محزونون لضياع الدين وانحراف أمتنا عن شرعة سيد المرسلين ، محزونون لأجل أراضينا التي اغتصبت ، وأعراضنا التي انتهكت ، محزونون من أجل دموع أطفالنا الذين يتموا وأنات نسائنا الذين رملوا:
لي فيــك يا ليل آهـــات أرددهــا *** أواه لو أجــدت المحزون أواه
لا تحسبـي محبا اشتكــى وصبا *** أهون بما في سبيل الحب ألقاه
إني تذكــرت والذكـــرى مؤرقة *** مجـــداً تليداً بأيدينـــا أضعــناه
كم صــرفتنا يد كنــا نصـــرفها *** وبـــات يحكمنـــا شعــب ملكناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصوصا جناحـاه
ووسط كل ذلك يقف المسلمون يئنون في حيرة وذهول يستجدون العزة من الغرب بارة، والشرق تارة، وما دروا أن سر عزتهم وقوتهم ، بل سر سعادة البشرية كلها بين أيديهم:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما *** والماء فوق ظهورها محمول
حتى اشتكى ثرى الأرض وبكى أديم السماء، من غياب حضارة المسلمين كانوا رحمة للبشرية جمعاء: ( فلكم خسر العالم بانحطاط المسلمين؟! ولكم عانى البشر من الويلات بعد أن ضاع زمام قيادة البشرية من أمة الإسلام ، وهيمنت على العالم حضارة الغرب المادية المبتوتة الصلة عن المنهج الرباني العظيم؟ كم عرف العالم من مجاعات؟ وكم قاسى البشر من ويلات الحروب والنكسات؟ كم شردت ملايين وملايين البشر؟ كم دمرت من بلاد وأوطان؟ وكم وكم وكم..؟!
فأين حضارة الإسلام التي كانت تفرض قواعدها على خليفة المسلمين أن يمهد الطريق للحيوان ، كما كان يفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ وأين جهاد المسلمين التي كانت تملي أخلاقياته عليهم ألا يقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة ، ولا عابداً في محرابه ، وألا يهدموا داراً أو يقلعوا شجراً؟
وما فتىء الزمـــان يـدور حـــتى *** مضـــى بالمجد قوم آخــــرون
وأصبح لا يرى في الركب قومي *** وقــد عاشـــوا أئمتــه سنيـــن
وآلمنـــــي وآلــــم كــــل حــــــر *** سؤال الدهر أين المسلمـون؟!
ترى هل يرجــع الماضي فإنـــي *** أذوب لــذلك الماضــي حنيــن؟ (7)
* طلائع النور:
واليوم في زمان انكسار أمتنا وضعفها وهوانها على العالمين ، يقف الإسلام العظيم ليبحث عن أمثال هؤلاء الرجال ، الذين على أكتافهم تنصر دعوته وترفع رايته ، فهذا الدين العظيم لم يكن يوماً في حاجة إلى الرجال الذين يحملون همه كحاجته إليهم في هذه الأيام.
ولئن لم ير أكثر المسلمين واقعنا غير الضعف والهزيمة ، ولم يسمعوا إلا الأنين والدموع، ولم يبصورا إلا الثكالى والمستضعفين ؛ فإن عين البصيرة لترى أمتنا لا تزال تخرج الرجال تلو الرجال ، ولا أكثر دلالة على ذلك من طلائع النور المباركة التي انتسبت إلى قافلة فرسان النور صدقا وحقا، لتشهد على صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً ، يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة"(8)
فلأنت يا فارس النور وأخوانك ذلك الغرس ، يا من سلكت طريق الله تعالى ، بعد أن استيقظ النور في قلبك ، ودعت حياة الغفلة مع هزة الإيمان(9) ثم خطوت خطوتك الثانية المباركة وصرت مصحفاً بشريا ، يعلن مع كل لحظة أن: " صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" [ الأنعام:62] ، بعد ما أكرمك الله بحياة النور(10)
وإني لألمح من خلال تلك الوجوه المستنيرة بذوراً جديدة لأبي عبيدة ومعاذ ، وسالم وخالد ، وعمرو والقعقاع، وغيرهم من عمالقة الرجال الأول، والذين حملوا راية الإسلام أول مرة.
لكن هذه البذور لا تزال تحتاج إلى رعاية وغراس؛ حتى يشتد عودها وتصير أشجاراً باسقة، تؤتي من ثمار النور أكلها كل حين بإذن ربها ، لتنهض بأمتنا وتعيد لها مكان الريادة والسيادة من جديد، حتى تنعم البشرية كلها بالعدل والرحمة والسعادة والرخاء في ظل حضارة الإسلام الربانية العظيمة.
* سورة العصر ترسم الطريق:
هذه سورة العصر تنتصب منارة في وسط آي الذكر الحكيم تكشف عن نور تلك الحقيقة الإيمانية الناصعة؛ حيث يقول فيها رب العالمين:" والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".[ العصر:1-3]
( فأقسم الله تعالى بالدهر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة ، على أن كل واحد في خسر؛ إلا من كمل قوته العلمية بالله ، وقوته العملية بالعمل بطاعته ، فهذا كماله في نفسه؛ ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره إياه به، وبملاك ذلك وهو الصبر ، فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح ، وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك ، ووصيته له بالصبر عليه)( 11)
فتأمل معالم الطريق إلى الله تجده في أربع خطوات : إيمان صادق يخالط بشاشته القلوب بعد أن هزها واستقر في سويدائها ، ثم عمل صالح ينطق بتصديق ذلك الإيمان من خلال انغماس في حياة النور في كل حركة وسكنة.
ثم تحرك ومبادأة بهذا الدين ، توصي به الحائرين ، وترشد بنوره الضالين ، ثم صبر على ما يقابلك من أذى بعدما أخترت أن تكون من الرجال الذين يحملون هم هذا الدين وينفقون حياتهم في سبيل رب العالمين.
فتأمل كيف عاد نصف الطريق إلى حيازة شرف حمل رسالة الإسلام والصبر على ذلك حتى الممات؛ تعرف سر قول الإمام الشافعي رحمه الله في تلك السورة العظيمة: " لو تدبر الناس في سورة العصر لكفتهم" ( 12)
* أثر مع قافلة الرجال:
ومن أجل هذه الخطوة المباركة ، والتي بها يقطع المسافر إلى ربه نصف الطريق ؛ كان جهاد الرجال الأول الذين لبوا النداء وحملوا اللواء حتى نصر الله بهم دينه، وأعلى راية شرعته ، ولن تزال قافلة الرجال سائرة في درب الشرف والعزة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والسعيد حقا من علت به همته؛ فلم يرض إلا أن يناطحهم في الشرف الذي نالوا ،كما كان من أبي مسلم الخولاني رحمه الله ، ذلك المخضرم الذي فاتته شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يرض أن يكون في ذيل القافلة ؛ فانبرى يجهد نفسه يأبى إلا أن يزاحم الرجال الأول ، وهو يحث نفسه على المسير قائلاً: ( أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يفوزوا بمحمد صلى الله عليه وسلم دوننا! والله لأزاحمنهم عليه؛ حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً.) (13)
وأخيراً يا فرسان الإسلام ، ويا طلائع النور ، قد آن لكل منا أن يطبع له أثراً مع تلك القافلة المباركة من رجالات الإسلام ، ممن ساروا على خطى سيد الرجال في العالمين، محمد صلى الله عليه وسلم فدونك في الميدان يا فارس الدين ، فكن من مغاويره ، ولا يفوتنك شرف الانتساب إلى زمرة رجاله:
وكن رجلاً إن أتوا بعده *** يقولون مر وهذا الأثر
ثم نبشرهم في نهاية المسير أن المستقبل ما يزال لهذا الدين ، وأن فجر الإسلام قادم من قريب، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.
ثم اجعل آخر دعواي وإياك أن الحمد لله ناصر فرسان الإسلام ورجالات المؤمنين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سير أعلام النبلاء ، الذهبي (1/14).
(2) رواه مسلم ، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (5109).
(3) حلية الأولياء ، أبو نعيم،( 1/196)، وقال الألباني في تخريج الطحاوية ص(530): حسن موقوفاً.
(4) تاريخ الرسل والملوك ، الطبري ،( 2/268).
(5) رواه الحاكم في المستدرك،(194) ، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب( حديث رقم2893): صحيح موقوفاً.
(6) رواه أبو داوود ، كتاب الملاحم ، باب تداعي الأمم على الإسلام ، (3745)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داوود (4297).
(7) نهضة أمة ، هشام مصطفى عبد العزيز ص(6-7).
(8) رواه ابن ماجه ، المقدمة باب اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم(8)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه(8).
(9) راجع كتاب: هزة الإيمان ، الجزء الأول من سلسلة الطريق إلى الله ، للمؤلف.
(10) راجع كتاب: حياة النور ، الجزء الثاني من سلسلة الطريق إلى الله ، للمؤلف.
(11) إغاثة اللهفان ، ابن القيم (1/33).
(12) تفسير ابن كثير (1/203).
(13) الفتوحات المكية ، محي الدين ابن العربي (2/478).