رمضان فرصة للتغيير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسـول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالأيام تمر مر السحاب، وتمضي الـسـنـون سراعاً، وجلنا في غمرة الحياة ساهون، وقل من يتذكر أو يتدبر واقعنا ومصيرنا مع أننا نـقــــرأ قــول الله (تعالى): ((وَهُوَ الَذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)) [الفرقان: 62].
والمسلم في عمره المحدود وأيامه القصيرة في الحياة قــــد عوضه الله (تعالى) بمواسم الخير، وأعطاه من شرف الزمان والمكان ما يستطيع به أن يعـــــــوض أي تقصير في حياته إذا وفق لاستغلالها والعمل فيها، ومن تلك المواسم: شهر رمضان الـمبارك، يقول الله (تعالى): ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقرة: 183]، (إنه نداء رباني حبيب لعباده المؤمنين يذكرهم بحقـيـقـتـهم الأصيلة، ثم يقرر بعد ذلك النداء: أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل ديــن، وأن الغاية الأولى هي إعداد القلوب للتقوى والخشية من الله، هكذا تبرز الغاية الكبرى من الصوم.. والتقوى هي التي توقظ القلوب لتؤدي هذه الفريضة طاعةً لله وإيثاراً لرضاه.
والمخاطبون بهذا القرآن من الرعيل الأول ومن تبعهم بإحسان يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنـهـا في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها وطريق موصل إليها) (*).
ولهذا الشهر الكريم من الخصائص التي ميزه الله بها دون غيره من الشهور ما يساعد على أن يكــــون فـرصـة لزيادة معدلات التغيير والتصحيح في حياة كل فرد، بل في حياة الأمة جمعاء، يقول الرســــــــول : (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين) [اخرجه الترمذي]، وفي رواية أخرى: (إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة).
هذه الفرصة العظيمة سانحة في هـــذا الشـهـر المبارك حيث تصفو النفوس، وترق القلوب، فيؤوب العباد إلى ربهم ويقومون بين يديه.
وليعلم كل منا أنه يساهم بقسط وافر في تردي الـحــــال وتأخر النصر إذا لم ينتهز فرصة رمضان لزيادة رصيده من الصالحات، وتصفية ما عليــه من الآثام، حيث هو لبنة في بناء الأمة التي وعد الله بتغيير واقعها إلى أحسن وحالها إلى أفضل إن هم غيروا ما بأنفسهم: ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ....)) [الرعد: 11].
ما أحوجنا معشر المسلمين كافة إلى وقفة محاسبة، كل منا مع نفسه في هذه الأيام الفاضلة، نراجع أحوالنا لا سيما من أسرف وفرط في جنب الله ومن قصّر في حق أهله أو حق من ولاه الله رعايته، ومن زلت به القدم وفرط في حقوق إخوانه المسلمين فلم يسلموا من أذاه.
إنها فرصة لأن يتساءل فيها كل منا مع نفسه: حتى متى يبقى ضالاً عن صراط الله المستقيم، وهو يعلم أن الطريق الصحيح هو ما دعا إليه البشير النذير وأن خلافه ونقيضه هو الضلال المبين؟، لماذا أكون ((كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)) [النحل: 92]؟!.
إن الاستمرار على الحق والعض عليه بالنواجذ، والعودة إلى رحاب الله، وترك ما ألفته النفس من لهو وهوى قديكون الفكاك منه صعباً كما قال الشاعر:
النفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
لكنْ لا بد من إرادة قوية واستشعار لواجب التغيير، وبخاصة إذا آمنا إيماناً جازماً أننا معرضون للخطر وسوء الخاتمة إن لم يتداركنا الله برحمته، فما أحوجنا إلى الصبر والمصابرة حتى نلقى الله وهو عنا راضٍ.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن من ورائكم أياماً الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله خمسين منهم أو خمسين منا؟ قال خمسين منكم) [رواه أبو داود].
إننا معشر المسلمين حكاماً ومحكومين يجب أن نصطلح مع الله، وهذا الشهر الكريم فرصة وأي فرصة.
فمن الحاكمين بأمرهم اليوم من يحارب الله ورسوله جهاراً نهاراً، فأنّى له أن يوفق وأنّى له أن يمكّن، وأنّى له أن يختم له بخير، فإن كانوا مسلمين حقّاً؛ فليعلنوا حقيقة إسلامهم، وليحكِّموا شريعة الله، وليوطدوا العزم على السير بهدي الإسلام، وليغيروا وفق منهاجه، فليس الأمر مجرد دعوى.
الدعاوى إذا لم يقم عليـــ ها دليل فأصحابها أدعياء
وهنا أيضاً دعـوة لكل جماعة أو فئة تنتمي إلى الإسلام وتدعو إلى ذلك أن تحقق ولاءها لله (تعالى) وأن تجرد متابعتها للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فكم رأينا في الواقع من يزعمون أنهم من الداعين إلى الإسلام، بينما هم في العقيدة منحرفون، وعن السنة زائغون، وعن آداب وأخلاق الإسلام متخلون.
وقصارى ما عندهم: الكلام والخصام والحزبية المقيتة واللدد في الخصومة، فما أحوج المنتمين إلى سلك الدعوة إلى الله لتمثل الإسلام في منطلقاتهم وتعاملاتهم والولاء للمسلمين والبراء من أعداء الدين.
فهل يكون هذا الشهر فرصة للعودة إلى الله وسلوك صراط الله المستقيم؟! عسى ولعل.
وأخيراً: ندعو كل مفكر وكاتب مسلم ـ ممن اتخذ الكـتـابة مهنة ومصدر رزق ـ ألا يزل به القلم ويتبنى الأطاريح المنحرفة والآراء الفجة فيما يزعمونه علاجاً للمشكلات، لأننا قَلّ أن نجد من هؤلاء الكتاب من يسلك السبيل السوي فيما يسود به الصفحات؛ لكثرة ما يقولون بلا علم، ولـجُل ما ينقدون بلا فهم؛ فضلاً عن هجومهم الـمـتـوالـي على الدعاة والطعن في نواياهم واتهامهم بما هم منه براء.
فهؤلاء إن كانوا غير مسلمين فليس بعد الكفر ذنب؛ وإن كانوا مسلمين فعليهم أن يتوبوا إلى الله؛ وأن يستشعروا الأمانة الملقاة على عواتقهم؛ وعـلــيهـم ألا يتسببوا في أذى إخوانهـم والإساءة لهـم والتحريض ضدهـم بلا دليل؛ وعند الله تجتمع الخصوم.
فلعل في هذا الشهر المبارك ما يوضح الرؤية الـشـامـلـة في الموقف من الإسلام ودعاته؛ وألا يكونوا أذناباً لأعداء الله في الهجوم على الإسلام والتخويف منه بمناسبة وغير مناسبة.
ولعل في هذه الأيام الفاضلة ما يعين على تجاوز الأخطاء وتناسي الإحن، والعودة إلى الحق وعدم التمادي في الباطل، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟.
والله أسأل أن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
وصلِّ اللهم وسلم على البشير النذير وعلى آله وصحبه وسلم..
الهوامش :
* في ظلال القرآن، م1، ص 168، بتصرف