قال يا عم هل تريدني أن أكون من أهل النار ؟
قلت له أعوذ بالله .. لاوالله و الله ما جئنا إلى الجهاد إلا هرباً من النار وطلباً للجنان ..
فقالالغلام .. إن الله تعالى يقول " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفافلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقدباء بغضب من الله ومأواه جهنم "
هل تريدني أن أولهم الأدبار فيكون مأواي جهنم ..
قال أبو قدامة .. فعجبت والله من حرصه ومن تمسكه بهذه الآيات .. فقلت له :
يا بني إن الآية مخرجها على غير كلامك .. فأبى عليَّ الغلام أن يرجع .. فأخذت يده أجذبه حتى أرجعه إلى آخر الصفوف .. فجعل يجذب يده مني .. ثم بدأ القتالفحالت الخيل بيني وبينه
فلما بدأ القتال ..جالت الأبطال .. ورميت النبال .. وجرّدت السيوف .. وتكسّرت الجماجم .. وتطايرت الأيدي والأرجل ..
واشتدعلينا القتال حتى اشتغل كل منا بنفسه ..
وقال كل خليل كنت آمله .. لاألهينك إني عنك مشغول
. حتى إن السيوف والله من شدة الحر فوقنا حتىكأنما هو تنور يُشعل من فوق رؤوسنا .. إن السيوف والله لا تثبت من أيدينا ..
فما زال القتال يشتد علينا .. قد انشغل كل منا عن الآخر بنفسه ..
وما زال يشتد علينا ويزيد .. حتى زالت الشمس ودخل وقت صلاة الظهر .. ثمهـــــزم الله تعالى الصليبيين ..
قال أبو قدامة .. فلما هزمهم اجتمعت معأصحابي .. ثم صلينا الظهر .. فبدأ كل واحد من الناس يبحث في أقربائه وأحبابه .. أماالغــلام فلا أحد يسأل عنه ولا ينظر في خبره ..
فبينما الحال على هذا .. قلت والله لأنظرن في خبره .. لعله مقتول أو جريح أو لعل بعض أولئك الكفار قدأخذه أسيراً وذهب به معهم .. لما هربوا وولّوا الأدبار ..
فبدأت أمشي بينالقتلى والجرحى .. وأتلفت بينهم أنظر .. فبينما أنا على ذلك .. إذ سمعت صوتاً يصيـحمن ورائـي ويقـول :
أيها الناس ابعثوا إلي عمي أبا قدامة .. ابعثوا إليأبا قدامة .. !!
فلتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام .. وإذاالرماح قد تسابقت إليه .. والخيل قد وطأت عليه .. فمزقت اللحمان وأدمت اللسان.. وفرّقت الأعضاء وكسّرت العظام .. وإذا هو يتيم ملقى في الصحراء ..
فأقبلتوالله إليه .. وانطرحت بين يديه .. ثم صرخت بأعلى صـوتـي قلت :
ها أنا أبوقدامة .. ها أنا أبو قدامة !!
فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصيإليك فاسمع مني وصيتي ..
قال أبو قدامة .. فبكيت والله على محاسنه وجماله .. وبكيت والله رحمة بأمه المقيمة في الرقة التي فُجعت العام الماضي بأبيه وأخوالهوتفجع هذا العام به ..
قال أبو قدامة .. فأخذت طرف ثوبي أمسح الدم عنمحاسنه وجماله .. فلما شعر بذلك رفع بصره إلي وقال : يا عم تمسح الدم بثوبك ! ..امسح الدم بثوبي لا بثوبك يا عمي ..
قال أبو قدامة .. فبكيت والله ولمأحر جواباً ..
ثم قال الغلام بصوت ضعيف .. يا عم أقسمت عليك إذا أنا متأن ترجع إلى الرقة .. ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه .. وأن ولدها قدقتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر .. وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصلسلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة ..
ثم قال .. يا عمي إني أخاف ألا تصدقأمي كلامك .. فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم .. فإن أمي إذا رأتها صدّقت أنيمقتول .. وقل لها إن الموعد الجنة انشاء الله تعالى ..
يا عمي إنك إذا رجعتإلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها 9 سنوات .. ما دخلت المنزل إلا استبشرت وفرحت .. ولا خرجت من المنزل إلا بكت وحزنت .. وقد فجعت بمقتل أبي العام الماضي وفجعتبمقتلي هذا العام ..
وإنها قالت لي : عندما رأت علي ثياب السفر .. ورأت أميتلف الثياب علي " يا أخي لا تبطئ علينا وعجّل الرجوع إلينا " ..
فإذارأيتها عمي فطيّب صدرها بكلمات وقل لها يقول لك أخوك الله خليفتي عليكِ ..
قال أبو قدامة .. ثم تحامل الغلام على نفسه .. وضاق نفسه في صدره .. وضعفصوته حتى لم أعد أفهم شيئا من كلامه ..
ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : ياعمي صدقت الرؤيا والله .. صدقت الرؤيا ورب الكعبة .. والله إني لأرى المرضيّة الآنعند رأسي .. وأشم ريحها ..
قال ثم انتفض صدره .. وتصبّب العرق من جبينه .. ثم شهق شهقات حتى اشتد عليه الشهاق .. ثم مات الغلام من بين يدي ..
قال أبوقدامة .. فأخذت بعض ثيابه التي فيها الدم وجعلتها في كيس ثم دفناه .. ولم يكن عنديهم أعظم من أن أرجع إلى الرقة ثم أبلّغ رسالته إلى أمه ..
قال فرجعت إلىالرقة .. وأنا لا أدري ما اسم أمه .. ولا أين مسكنهم ومأواهم ..
فبينماأنا أمشي في طرقات الرقة .. إذ وقفت إلى منزل قد وقفت عند بابه فتاة صغيرة .. عمرها 9 سنوات تنظر في الغائدين والرائحين .. ما يمر بها أحد ترى عليه أثر السفر إلاسألته وقالت :
يا عمي من أين أقبلت ؟ .. فيقول لها من الجهاد ..
فتقوللهم معكم أخي ؟ .. فيقول ما أدري من أخوك .. ثم يمضي عنها ..
قال أبا قدامة .. فمر بها آخر فقالت له يا أخي من أين أتيت ؟ .. فقال لها أقبلت من الجهاد ..
قالت معكم أخي ؟ .. قال ما أدري من أخوكِ ثم مضى ..
قال فما زالت تسألالثالث والرابع والخامس والعاشر ..
ثم لما لم تسمع منهم جواباً بكت وخفضترأسها وقالت " مالي أرى الناس يرجعون وأخي لا يرجع " !!