بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين ..
أما بعد ..
******=*****
فهذه مجموعة من الخواطر القصيرة التي كانت تمر على بالي في فترات متباعدة قمت بتدوينها على شكل رؤوس أقلام عسى أن يأتي لها وقت يعاد النظر فيها بتوسع أكبر فطال العهد عليها والنفس لاقسة تميل إلى الدعة فرأيت أن تعرض فلعله يكون فيها خيراً من بث عزم أو إعادة نظر والمؤمن مرآة أخيه ..
فوائد وخواطر قصيرة :
::الجــزء الثاني ::
(6)
هل الملائكة جميلة الصورة ؟
وهل تعد أجمل من ابن آدم ؟
وهل الشياطين قبيحة الصورة ؟
وهل تعد أقبح من ابن آدم ؟
وهل امتنان الله عز وجل في خلق ابن آدم في أحسن تقويم يلزم أنه أجمل وجها وخلقة من كل مخلوق عداه حتى الملائكة ؟
للقرطبي رأي قد يخالف رأي كل من يمر على هذه الفائدة !
فلقد تعرض رحمه الله في تفسيره سورة يوسف عند تقطيع النساء أيديهن دهشة من دخوله عليه السلام المفاجئ عليهن وقولهن (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (31)
فذكر له توجيهان أحدهما نقله عن القشيري بأن الاستثناء يتوجه إلى تبرئته وعصمته من الفاحشة ، وتشبيه بالملك من هذا الباب
والتوجيه الثاني وهو المشهور في عرفنا بأنه لصورته وجماله ، وهذا هو الذي صححه القرطبي إلا أنه جعله ظناً منهن مخالفاً لما ورد في كتابنا من خلق الإنسان في أحسن تقويم وأنه لا يجب على الله بيان خطأ ظنهن ..وأن العرف ورد في التشبيه في القبح بالشيطان وفي الحسن بالملك .
وفي الشياطين أعاد عين الإشكال في سورة الصافات في قوله تعالى (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) (65) وذكر أن هذا تشبيه تخيلي لكل غير مرئي إلى غير ما ذكر رحمه الله تعالى
ثم رأيت أن الشوكاني في فتح القدير قد تابعه في سياق الموضوع وزاد عليه في الاحتجاج ، في سورة يوسف ولم يشر إلى ذلك في سورة الصافات .
قلت :
إن كان الإشكال الذي ذكروه في الامتنان بحسن التقويم في قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (4) ، أفلا يحسن توجيهه إلى قوام الجسم بحسن صفاته ، وكمال عقله ، كما قد قرره القرطبي وغيره في موضعه من سورة التين ؟
أما الجمال والصورة ففي ابن آدم الجميل والأجمل والقبيح والمشوه ..
فهل يستحسن القول في أقبح صورة تراها أنه أحسن صورة من الملك ؟!
وهل يستهجن القول في أحسن صورة تراها أنها أحسن صورة من الشيطان ؟!!
:: تكميل ::
لم يشر لهذه المسألة من المفسرين الكثير ، وما أظن دافع من ذكره إلا ما سطره الزمخشري في كشافه من ترسخ الطباع في الإقرار بهذا الأمر ، وختم كلامه بالتشنيع على أهل السنة وعلى من فضل الإنسان على الملائكة ،
ولستُ أرى أن هناك متعلق واضح بين المسألتين ، فلو كان الرد على ما أرادوا تقريره دون الخوض في هذه النقطة لكان أحسن خاصة وأن في أهل السنة من يوافقه فيما ذهب إليه
والله تعالى أعلم وأحكم ..
(7)
جاء في الحديث النبوي قول النبي صلى الله عليه وسلم
( حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النساء )
والتساؤل الذي قد يرد :
لماذا يعلن صلى الله عليه وسلم بأنهن قد حببن إليه في هذا الحال من كبر السن وقد كان بإمكانه قبل البعثة أن يتزوج ويتسرى ما شاء في شبابه ولا يمنعه حياء ولا حاجة؟ أفبعد النبوة والوقار ومكانة الاقتداء والإتساء ؟
والذي أظنه والله تعالى أعلم وأحكم بالصواب :
أن هذا من باب الإرشاد والتوجيه ، فإن النساء في ذاك الزمن لم يكنَّ يحضين بمعاملة لائقة ، والأغلب أنهن كن لقضاء الوطر والشهوة ، ومعاملة الجاهلية لهن لا تحتاج لبيان
فكان التوجيه الرباني هو بالنظر إلى إنسانيتهن
وكان تحبيبهن للنفس هو الإرشاد العملي التطبيقي في التوجيه لهذا العنصر من المجتمع فلم تكن المحبة في مقصودها محبة اشتهاء ولكن محبة إرشاد للجفاة الغلاظ
ولا زال الكثير من الأعراب البدو فيهم من الجفاء والغلظة نحو هذه الشريحة حتى أنهم في بعض المجتمعات إلى فترة قريبة إذا ذكروا النساء في مجلس رجال اعتذر القائل بقوله : أعزك الله أو أكرمك الله !.. وتشتكي كثير من النساء من معاملة الأزواج .. وفي الأرياف على المرأة جميع الأعمال الشاقة من الاحتطاب والطبخ والاحتلاب وأكف الرجال ناعمة فعجباً
فإن قيل فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان أحياناً يطوف على نسائه كلهن في ليلة واحدة وبغسل واحد . وأنه كاد أن يطلق سودة لما كبرت سنها وفقدت رغبتها وأنه يطأ السراري .. ومن كان حاله هذا لم يكن مصدره إلا الرغبة والشهوة ..
فأقول هذا الإيراد إنما هو دليلنا على ما ذكرنا ،
فالإنسان لا يؤتى القوة على الجماع وتُضاعف رغبته إذا كبرت سنه ، فلم يكن هذا إلا دليلاً إعجازياً على نبوته صلى الله عليه وسلم ، أن آتاه الله في كبره قوة عشرات الرجال في الجماع ..
إذ خرق العادة هنا أنسب في التعليم والتوجيه لأن مقامه مقام الاقتداء فناسب أن يعطى ما يعطى الرجال في شبابهم فيكون التعليم أكثر دلالة وأقوى أثراً لأن النفوس ترقب منه كل تعاملاته وعاداته الجبلية منها والمكتسبة ابتغاء التعبد بالاقتداء
وبه يتم التوجيه إلى هذه الشريحة عملياً بالحرص على إسعادها وإرضائها ودوام العشرة من المطلوبات الشرعية
وإذا نظر الناظر إلى مقدار الأثر العائد علم حقيقة ما ذكر ، إذ أن أبواب ومسائل النكاح والعشرة ومعاملة النساء وعباداتهن والتي من الممكن أن تحتل نصف الفقه الإسلامي كان أحد آثار ما ذكر آنفاً ، حتى لقد قال صلى الله عليه وسلم ضمن هذا المشروع التصحيحي للوضع الجاهلي (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخياركم خياركم لنسائهم)الصحيحة (284)
وفيها أيضاً (285) (خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهلي)
ولاحظ استعمال أفعل التفضيل الدال على كون المنافسة على الخيرية تنبثق من البيت فمن أراد المنافسة على الخيرية فعليه بأهله في حسن العشرة والتي من الممكن أن يكون هذا العمل سبب توفيق صاحبه لسائر الصالحات فالحسنة تجر أختها
وبالله تعالى التوفيق
(8)
أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه كانت عائشة وهي البكر الوحيدة
فهل تدل هذه المحبة التي اختصت بها رضي الله عنها على حظ للنفس سببها ابتغاء الشهوة ؟
أقول والله تعالى أعلم : كل من ينظر في ترجمة عائشة رضي الله عنها وأحاديثها وأخبارها يعلم أنها من نوع من النساء يرقى بذاته في مستوى الفكر والعقل والتدبير والخلق .. وهذه الصفات لو اجتمعت في امرأة فلن يبغي زوجها بها بديلاً إذ هذا من الكمال المنشود
ومع ذلك فإن خديجة رضي الله عنها قد امتلكت مثل تلك الصفات ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها حتى تظن عائشة أنه يفضلها عليها رغم أنها أكبر منه صلى الله عليه وسلم بعقد ونصف وهذا ما دعا عائشة رضي الله عنها لتساؤلها فالطبع البشري يؤكد أن البكر والصغيرة أقرب للرجل من الثيب الكبيرة والتي نبينا صلى الله عليه وسلم الرجل الثالث في حياتها
فتفخر هنا بشبابها عليها ابتغاء معرفة الجواب ، فيرد عليها صلى الله عليه وسلم فخرها بأنه لم يستبدل بخديجة رضي الله عنها خير منها وهذا منثور مشهور في كتب السنن والسيرة
فإن كانت عائشة أقرب لقلب نبينا صلى الله عليه وسلم من بقية نساءه فهذا جهدها وعملها الذي اكتسبته وفضل الله يؤتيه من يشاء ، وليس هو متعة وحظ نفس فلقد كانت خديجة رضي الله عنها في نفسه صلى الله عليه وسلم أعلى مقاماً وفي تفضيل إحداهما على الأخرى خلاف مشهور ، وإن كان في المنظور الدنيوي اتفاق طبعي ..
فالمحبة إذاً تكون بالتوافق والعناية والاهتمام والحكمة وكلٌ بحسبه لا بالشهوة والمتعة فكم من مستمتع بفراشه مبتلى في حياته وقد يصل إلى الفراق
والله المستعان ..
(9)
إذا أشيع في امرأة رجل طعناً في شرفها وقدحاً في عفتها .. فماذا يفعل ؟
في حديث الإفك كان موقف علي رضي الله عنه ليس تهمة في عائشة رضي الله عنها ولكنه رأى أن مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تنـزه ويقطع عنها الأقاويل ولا يشغل قلبه عن أمر دولته وشرعته خاصة أنه رأى أنه صلى الله عليه وسلم دائم القلق ، فأشار بقطع سبب القلق فقال رضي الله عنه : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك ..
فالطرف الأخير تفويض الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم في إيثار الراحة بالفراق من إثبات البراءة
وكذا الحال في كل مرموق لا يجعل للألسن عليه مدخلاً .
ولكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صبره وعدم جرحه زوجته وتمسكه بها لدليل على كون تلك المعايير لا أهمية لها في الشرع ..
والمتأمل في الحديث يرى فعله صلى الله عليه وسلم وقد بلغ أسمى وأرقى درجات التعامل والعدل مع النساء باعتبار إنسانيتهن .. فمع كونه يعيش في مجتمع طبعه تغليب الغيرة على كل عاطفة ، واحتقار كل ضعيف غيرة بينهم ، ولا مفهوم لعدالة أو أخلاق إذا تعارضت مع باب الغيرة ،
لقد كانت فتنة وابتلاء من الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم (أشد الناس ابتلاء الأنبياء) وحقيقة مقدار هذه المحنة قد لا تستوعبها عقولنا في زمننا الحالي
ولك أن تتخيل هذه الحالة وخوض الناس في عرضه ومع ذلك فتحكي عائشة مأساتها فتقول بأنها رضي الله عنها قبل معرفتها ما يخوض الناس لم تستنكر منه صلى الله عليه وسلم سوى نقصان مقدار لطفه المعتاد معها فتقول : (يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول : كيف تيكم . ثم ينصرف فذلك يريبني ولا أشعر بالشر).
ولما وقفتْ رضي الله عنها على حجم مأساتها استأذنته زيارة أبويها فأذن لها صلى الله عليه وسلم أن تأتي أبويها مع شدة اشتعال الفتنة وعدم وضوح القضية فهي كانت مريضة في بيتها وهو صلى الله عليه وسلم لم يزعجها في مرضها بشيء ولا حتى بسؤال فتأمل ..
ثم يقوم صلى الله عليه وسلم بعد مدة على المنبر يستعذر من ابن أبي بن سلول فيقول : (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمتُ على أهلي إلا خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيراً وما يدخل على أهلي إلا معي) ولاحظ أنه لم يأتيه وحي إلى الآن فالخبر عنده صلى الله عليه وسلم مظنون غير مقطوع ومع ذلك تأمل في حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم
وطال الأمد ولما ينزل الوحي حتى إذا تم الشهر جاءها صلى الله عليه وسلم فخاطبها فيما وصَفَتْ بقولها : (فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه)
وفي هذا وقفات تستحق تأملاً فصلى الله عليه وسلم
فإذا أعدنا السؤال المطروح :
إذا أشيع في امرأة رجل طعناً في شرفها وقدحاً في عفتها .. فماذا يفعل ؟
فهل تبقى لدينا تلك المعايير ..
(الموضوع لا يخص من تحوم حولها قرائن ظاهرة وظنون غالبة)
(10)
في أكثر من آية يخاطب الله الكفار مستنكراً نسبتهم البنات له مع كونهم يعتبرون الإناث أدنى من الذكور..
فالآية ليس فيها تفضيل الجنس ، بل فيها تعرية لهؤلاء القوم ومن شابههم ،
أنهم إذا كانوا حقاً يؤمنون برب خالق فكيف يتجرأون على هذه القسمة ؟ فمن أحب ووقر آثر على نفسه لا آثر نفسه
وهذا يدل على أنهم كذبة لا يحملون في قلوبهم توقير وإجلال للخالق عز وجل
إذ لو أقروا به لوقروه فكيف يقسمون أدنى وأعلى ، ويخصون خالقهم بالأدنى ؟!
وفي هذا دلالة على كون الألوهية والربوبية أساس الإقرار بها إذعان وذلة وخضوع وتوقير
وبالله تعالى التوفيق
وكتبه
أبو محمد
الاثنين 11/7/1432هـ
الموافق 13/6/2011م