كود: [عرض]الفن والأدب ملزمان بالارتقاء بذوق الإنسان ليتفاعل مع البيان الإلهي، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على روحه وعلى كيانه كله فيدرك دوره الحقيقي في الوجود، ويدرك أن لوجوده وظيفة يتحتم معرفتها وأداؤها بروح جمالية
لأدب نشاط إنساني يولد مع الإنسان، ولكي يكون جميلاً قويًّا مؤثرًا خالدًا، يتوجب عليه الاسترشاد بالبيان الذي خطت معالم خريطته مفصلة في الكون والوجود، وأنزلت مرتكزاته على محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم. وبعبارة أخرى، إن الأدب لا يستحق صفة الأدبية إلا في ظل "البيان"، وذلك باقتران دقة الوسيلة والأداة والكلمة(1) في إطارها العام بالبيان في مستواه الثاني، لأن الكلمة إذا لم تتطلع إلى أن تكون في مستوى البيان الحقيقي وتجتهد لأجل ذلك، فستكون مجرد زيف لا يلبث بريقها أن يبهت ويعتريه الصدأ.
فهؤلاء متأكدون أن أرواحهم إذا لم تتشرب روح البيان فإن حركيتهم ستظل مفتقرة إلى النضج والانسجام، ولن ترقى أفعالهم ولا أقوالهم في مقامات الاكتمال، وستظل بعيدة عن التناغم والانتظام في دائرة البيان الكلي حيث يأخذ كل عنصر مكانه في جو من التوازن والتناسق. وبعبارة أخرى، إذا افتقرت الأفعال والأقوال لروح البيان فلن تجد مكانها الطبيعي والمنطقي ضمن سلسلة البيان الكلي، بل إن وجودها بقرب العناصر الأخرى التي حصلت مشروعية الدخول في دائرة البيان، يصير عنصرًا مزعجًا وحالة مرضية، بل ورمًا خبيثًا يتوجب بتره.
إن مظاهر التفاعل مع البيان تتعدد، وسبل محاكاته تتنوع بحسب مستويات التفاعل مع هذا البيان باعتباره إطارًا عامًّا يحدد العلاقة، ويبني المنهج ويرسم الجادة وفنون القول على وجه الخصوص، التي توظف الكلمة بمفهومها اللغوي أهم المجالات التي تحتاج إلى استحضار مفهوم البيان، بل هي أهم المكونات المرتبطة بالإنسان ارتباطًا مباشرًا حاجةً إلى التفاعل مع البيان واستحضاره.
ينقسم الأدب إلى قسمين كبيرين يعكسان تلك العلاقة الأزلية التي يتصارع فيها الخير مع الشر، أو تتنازع فيها قوى الخير مع قوى الشيطان؛ ففي الوقت الذي تسعى فيها قوى الخير إلى ربط صلة الفن والأدب بالبيان وحقائقه، تعمل الأخرى على إفساد العلاقة الأولى.
لقد ضل الصنف الأخير الطريق، وتوقفت بوصلته منذ خلق الله آدم عليه السلام، وأمره الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر فطرد من رحمة الله، وأنظره الله إلى يوم يبعثون... ولذلك يجلس الشيطان للإنسان في طريق العودة إلى المكان الذي أُخرج منه عندما خالف آدم وزوجه حواء أمْرَ الله وأكلا من الشجرة المحرمة. ومنذ ذلك الحين يعيش الإنسان فصول معركة لا تنتهي من أجل العودة إلى هذا الفردوس، والفن والأدب في الأصل نوع من التغني بهذا الفردوس. لكن الشيطان لا يمل من إفساد اتساق كل نغمة وكل ما يقرب من البيان الكلي الذي ينير طريق العودة. وبضاعة من جندوا لهذه المهمة هي البضاعة السائدة في هذا الزمن الصعب، وهي تدعي امتلاكها شفرة الوصول إلى السعادة، ولعمري إنه مجرد وهم ليس غير.
سبل الارتقاء في مقامات الوصول عديدة، ومنها الارتباط بالروح والوجدان والجوارح بأمنية العودة إلى فردوس مفقود، من خلال لحن جميل متوازن، أو نص اختمر طويلا في رحم وَلّادة حتى اكتملت معالمه واجتمعت محاسنه، ليولد بعد مخاض ولادة طبيعية، وليس ولادة قيصرية.
المخاض العسير وسهر الليالي الطوال ومعاناة تحقيق نشوة الاكتمال هذه، هي مكونات الأدب الذي يدور في دائرة البيان المطلق. وبعبارة أخرى، إنه البحث عن الكمال، بل هو البحث المستمر من أجل الوصول إلى ملامسة حقيقته. فلكل أديب نموذج فردوسي مفقود يبحث عنه بما يراه مناسبًا لذلك، ولذلك كان الأدب الرفيع على مر العصور، معاناة أليمة وعذابًا مريرًا ومخاضًا عسيرًا.
على هذا المنهج صار فحول الكلمة من أمتنا عبر مختلف العصور والأزمنة، بعد أن اختط كل فحل لنفسه في دائرة هذا المنهج سبيلاً خاصًّا يميزه، وأسلوبًا يطبع مخاض نصه، ومعاناة تختم إبداعه... فالحلاج وابن عربي مثلاً في بحثهما عن الحقيقة أدركا بآدميتهما استحالة الإمساك بكل خيوط البيان المطلق، لكنهما أصرا -كما أصر غيرهما- على البقاء في دائرة المعاناة... فكل مقام يصلونه، يمثل بداية السير إلى مقام آخر لتبدأ الرحلة من جديد. فأما الحلاج فقد حلق ولم ينزل، وأما ابن عربي فظل قلبه متعلقًا بالسماء هائمًا في المظاهر البيانية التي تجود بها، وظلت روحه مشرئبة هائمة في الملكوت، لكن على علو منخفض، ولم يتقدم مخافة الاحتراق.
ولذلك فالأدب في أصل وجوده رحلة بحث طويلة، وللأستاذ فتح الله كولن رأي في هذا الباب مضمونه أن الأدب مهما بلغ من القوة الفنية والعمق الجمالي والقدرة على التأثير، إذا لم يكن مؤسسًا على الخطاب الإلهي ولم يستنر بنور مملكته، يعتبر جماله جمالاً نسبيًّا، لأن هذا الجمال يفتقر إلى المعنى الحقيقي للجمال، بل هو مجرد إحساس موهوم.
إن التجربة الأدبية بهذا المفهوم محضن تجارب كثيرة، وليس بمقدور أحد الادعاء بأنه نسيج وحده باستثناء البيان القرآني. فكل تجربة من هذا المنظور، هي في الحقيقة ملتقى تلتقي فيه تجارب الماضي بخصوصيات الحاضر؛ فتجربة اليوم تمتاز عن تجربة الماضي بما تحمله من خصوصيات الحاضر، لكنها تحمل خصوصيات الماضي كذلك ولا يمكنها التجرد عن ذلك ولا التنكر له، بمعنى أن التجربة الأدبية لا تكتمل معالمها المركزية إلا في ظل الخطاب الإلهي وعندما تكون بوتقة يلتقي فيها ثراء الماضي وتجاربه بخصوصيات الحاضر ومتطلبات العصر، لكن برؤية تتطلع إلى المستقبل أفضل من الحاضر ومن الماضي نفسه.