قال الراوي :
أقبلت على أخي يوماً وأنا منتفشٌ ، أكاد أشعر أني لا أمشي على الأرض ، بل أطير فوقها !!
ولم أنتظرْ أن ْ يسألني عن سر هذه النشوةِ التي تفيض على ملامحِ وجهي ، وتتطايرُ في عيني ..!!
وبادرتُ أحدثهُ عن ( إنجازاتي ) لأسبوع كاملٍ ، كنت قد وعدته أن أقبل على دوائر متعددة من الطاعات وأعمال الخير ..!!
قلت له : فعلتُ.. وفعلتُ.. وقمتُ... وقدمتُ .. وقلت .. ونفعتُ .. وانتفعتُ .. وأثرتُ ..وتأثرتُ ... الخ
واسترسلتُ في ذكر تلك ( المنجزات ) التي تجعلني أفاخر النجومَ ، وأشعرُ معها أني إنسان آخر ..!!
وكان كعادته يصغي مبتسماً ، يشجعكَ وجههُ على أن تسترسلَ فيما أنتَ فيه ..!
حتى إذا فرغتُ مما عندي ، وأنا لا أزال أهتزُ اهتزازة الوردةِ إذا مر بها نسيم الصباح ، يطبع على وجنتيها قبلاته ، فيفيض وجهها خجلاً ، ويترجم هذا الخجل عبقا وأريجا يهز الحياة من حولها ..!!!
وتمتم بدعاء ، ثم أخذَ يثني ويمتدح ، ويدعو لي .. وسكت قليلا ثم قال :
غير أني ساقول لكَ كلمةً موجزةً .. واشرحها بعد ذلك ..
لكني أرجو أن تحفظَ عني هذه الكلمة ، وأن تجعلها شعارا لك حتى يوافيكَ الموتُ وأنتَ على ذلك ..
وشعرتُ أنه سيقولُ شيئاً جديداً ، فكأنما أزيحتْ ستارةُ الدنيا من على قلبي ، وانكشفَ الكونُ كله ، فإذا هو يصغي معي إلى هذا الحديث الشجي ، الذي يتنزل من سماء السماء ، إلهاما من الله ، وفيض إشراقات ربانية تحيا به القلوب ..!
تنهدَ طويلاً ، ثم قال : الله المستعان ... اسمع هذه الكلمة بكلية قلبك ..
انتبهْ ..فأنتَ به ..!!
ويبدو أنه رأى علاماتِ التعجبِ تملأ وجهي كله..!
فابتسم وبادر يناولني ورقة وقلماً .. وطلبَ مني أن أكتبَ الكلمة .. فكتبتها على النحو التالي : انتبه ..فانتبه ..!!
فهما مني أن المطلوب مني أن انتبه ، فينتبه هو معي !!!
فاستنارَ وجههُ بالضحك حين قرأ ما كتبتُ .. ثم قال :
من حقك إذن أن ترتسمَ علاماتُ التعجب في طولِ وجهك وعرضه !!
وأخذَ يكتبُ ثم ناولني لأقرأ فإذا فيها ( انتبهْ ..فأنتَ به ..!! )
وتأملتها طويلاً .. طويلاً ...!!
غير أني شعرتُ أن المعنى المراد ليس واضحا تماماً .. فسألته التوضيح ..
فما كانَ منهُ إلا أن تدفقَ بحديث شجي ، وسالت على لسانه ألوانٌ من المعاني السماوية الممتعة ، أشبهت كلامه ساعتها بماءِ السماء ينهمر على أرض عطشى ، فيهزها ويحييها بإذن ربها ..
وكان مما قال :
جميلٌ أن تندفعَ إلى ألوانٍ من أعمال الخير ، تهزُ بها نفسكَ ، وتهزُ بها الحياةَ من حولك ..
وجميلٌ جداً أن تنافسَ المتنافسين للوصولِ إلى الفردوس ، ورضوان من الله أكبر ..
وجميلٌ للغاية أن تحرصَ على أن تكون في المقدمة في هذه الميادين الراقية ..
وجميلٌ أن تكونَ من أصحابِ الهمة الذين لا يرضون بغير القمة ..!!
وجميلُ جداً أن تملأ وقتكَ بألوانٍ من الطاعاتِ فتغدو نافعا منتفعاً على مدار الساعة
وجميلٌ للغايةِ أن تصبحَ متميزاً كأنك الشامةِ في وجه الدنيا ..
ومن أجل ذلك كله ، فلكَ أن تفاخرَ نجوم السماء ، وتتجاوزها متسامياً عليها ..!!
كل ذلك جميل ورائع وطيب ومطلوب .. ولكن ............!!
ولكن مع هذا كله انتبه ... فأنتَ به ..!!
والمعنى المراد .. انتبه لا يخدعنكَ الشيطانُ فيجر قدميكَ إلى منطقةٍ محظورةٍ ، قد تنسفَ عليكَ كل تلك الأعمال قليلها وكثيرها ، وتجعلها هباءً منثورا !!
عليكَ أن تتذكرَ ابتداءً ودائماً .. أن الشيطانَ لم يمتْ بعد ..!!
وأنه لا زال يتربصُ بك الدوائر ، ويحاول أنْ ينتهزَ الفرصةَ بعد الفرصة ..
فانتبه ، لا تعطهِ مجالا لذلك ، فإنه إذا لاحت له فرصةٌ ، شن على أرض قلبك حملةً قويةً ، وجاس خلال الديار يعيث فيها فساداً ، ويجعل أعزةَ أهلها أذلة ..!!
وبذلك ينسف عليك كل ما بنيته ..!!
انتبه .. ولا تغفل عن ربك سبحانه .. فإنما أنتَ به ..!
أنتَ به كل شيء .. وأنت بدون لا شيء أبداً ..!!
ودعكَ من المغرورين المنتفشين ، الذين لا تزال تسمعهم يقولون : أنا وأنا وأنا وأنا !!
ونسوا أن الشيطان قالها قبلهم !!
وأن فرعون قالها قبلهم أيضا ..!!
غداً سيتبين لهم أنهم عاشوا على وهم وفي غرور ، وسيعضون بنان الندم ، ويقرعون سن الحسرة ، ولكن بعد فوات الأوان .
تذكر دائماً وأبداً أنه سبحانه :
هو الذي وفقكَ .. وهو الذي أعانكَ ..
وهو الذي هداكَ .. وهو الذي يسر لك ..
وهو الذي قواك .. وهو الذي حبب إليك ..
وهو الذي منحك ما لم يمنح سواك ..
ولولاه لم تصلح لشيء أصلاً ..!!
ولولاه لبقيتَ في ضلالك القديم ..!!
ولولاهُ لكنتَ من الغافلين الذين تعج بهم الأرض وتئن منهم ..!
ولو أنكَ عدتَ إلى كلامك الذي بدأتَ حديثكَ به ، لرأيتَ أنك تقول :
فعلتُ .. وقلتُ .. وقمتُ بكذا .. وأنجزتُ كذا .. وقدمتُ كذا .. الخ
تنسب كل ذلك إلى نفسك !!!!
يا مسكين !! انتبه ... فإنما أنتَ به .. !!
لا نعني بهذا أن لا تفرحَ بالطاعةِ تقومُ بها .. كلا .. ولكنا نلفتُ النظر بقوة إلى أن فرحكَ إنما هو فرحاً بتوفيقِ الله لك إليها ، وإعانتك عليها ، وتحبيبه لك ..
كما قال تعالى وهو يربينا على هذا المعنى الكبير :
(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )
بفضل الله وبرحمته لا بالعمل في حد ذاته .. فانتبه ..إنما أنتَ به ..!!
لتفرح إذا نفعت غيرك ، وانتفعتَ أنت بسواك ..وعملت عملا صالحاً ..
ليتهزَ قلبكَ مسرةً بأنكَ أطعتَ الله سبحانه .. وعصيت الشيطان ، وتغلبت على نفسك الأمارة بالسوء ..
لتباهي الدنيا بالتزامك بهدي نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم والسير على خطواته ..
ولكن بشرط واحد :
هذا الشرط الواحد هو :
أن يبقى قلبكَ موصولاً بالله على أشده ،
وليكن أصل فرحكَ وسروركَ :
لأن اللهَ أعانكَ .. ووفقكَ .. وهداك .. ويسر لك .. وقواك .. وحبب إليكَ ..
في الوقت الذي ترى أكثر الخلق محرومين من هذا النعيم العظيم ، والخير العميم ، والجنة الوارفة الظلال ، الكثيرة الثمار ..!!
ليبقَ قلبكَ يغلي بمحبة الله سبحانه مع كل عمل تقوم به ، ومع كل كلمة تنطق بها ، أو تكتبها لتنفع بها بعض عباد الله ..
ليكن لسانكَ دائم الذكر لله سبحانه ، كثير الثناء عليه ، طويل المدح له ، شديد الالتصاق بذكره ..
فماذا يضيرك لو أنك قلت :
الله وفقني لكذا .. الله يسر لي كذا .. الله سبحانه أعانني على كذا ..
الله جل جلاله هداني إلى كذا .. الله عز وجل قواني على كذا ..
ولولا الله ما استطعت أن أقول كذا ولا أن أفعل كذا .. ونحو هذا ..
المحصلة واحدة ... ولكن الفرق بين الحالين اعظم من الفرق بين السماء والأرض
الأول رجل موصول مع نفسه ، ونفسه احتلت مساحة هائلة من قلبه ..!!
أما الثاني فهو رجل السماء يمشي على الأرض ..!!
فهمَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال التربية القرآنية على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، فهموا هذا المعنى الكبير وتربوا عليه .
ولذا تسمعهم يترنمون بمثل هذا البيت :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
نعم .. بل ولا فعلنا شيئا ألبته إلا بتوفيقه سبحانه وإعانته وتيسيره جل في علاه ..
فله الحمد في الأولى والأخرى ..
فبه فلتهتز قلوبنا بالبهجة .. فرحاً به لا بالعمل في حد ذاته ..
وإلا فقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لن يدخل أحدكم الجنة بعمله – قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلاّ أن يتغمدنى الله برحمته )
فلا ينبغي أن تشغلنا النعمةُ عن المنعمِ بها .. ولا الطاعة عن الموفق لها ، والمعين عليها ..
وبهذا ونحو هذا تسد الطريق في وجه الشيطانِ ،
لأنه إذا استطاعَ أن يتسللَ إلى قلبك ، سيبذر فيه بذور العجبِ ، والغرور ، والكبر ، والاستطالة على الناس ، وغير ذلك من آفات ستحرق عليك بستانكَ كله ،
فإذا بكَ تقلّبُ كفيكَ على ما أنفقتَ فيها من وقت وجهدٍ وربما ومال ..!! وها أنت تراها أمام عينيك خاويةً على عروشها ..!!
قال تعالى :
(ايود احدكم ان تكون له جنة من نخيل واعناب تجري من تحتها الانهار له فيها من كل الثمرات واصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فاصابها اعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الايات لعلكم تتفكرون )
ولك أن تتفكر طويلا في قوله ( لعلكم تفكرون ) ..!!
والخلاصة .. أن عليك أن تتذكرَ دائماً هذه المعاني الراقية لترقى .. ومن بديع الأمر أنك تجدها مصبوبة في جملة قصيرة ، يسهل عليك حفظها ..
انتبه .. فأنتَ به ..!
قال الراوي :
وشعرتُ أن صاحبي حلّقَ بي إلى سماوات بعيدة ، وغسلني هناك بالنور ، ثم أعادني إلى الأرض ، لأستأنف عملي فيها من جديد ، بقلب جديد ، مشرق هذه المرة .. !!
ولذا لا عجب أن وثبتُ إليه ، وقبلته على رأسه وأنا أقول :
أحييتني أحيا الله قلبك .. !
منقوووووووووووووول