خلق الله الخلق ودلهم عليه، وأوضح لهم طريق الوصول إليه، {وهديناه النجدين}، {ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها}، {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}.. فأقام عليهم بوضوح الدلالة حجته، بعد أن قطع المعاذير ببيان طريق السير على محجته، والدعوة إلى جنته {والله يدعوا إلى دار السلام}.
ومعلوم أن هذه الهداية هي هداية الدلالة والبيان التي أنزل الله بها كتبه، وأرسل بها رسله {مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، فبينوا الحق تمام البيان، وأقاموا الحجة على الخلق تمام القيام {فلله الحجة البالغة}.
ولم يبق بعد هداية البيان إلا التوفيق أو الخذلان، والناس في ذلك فريقان: موفق إلى الحق والخير بفضله سبحانه، ومخذول عنهما لسوء نفسه وقبح طويته من غير ظلم له بل بحكمة الله وعدله جل شانه.
فمن يشـا وفقه بفضله .. .. ومـن يشـــا أضــلــه بعـدلـــه
فمنهم الشقي والسعـيد .. .. وذا مــقـــرب وذا طـــريــــد
لحكمة بالغة قضــاهـا .. .. يستوجب الحمد على اقتضاها
{من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}،{وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
درجات ودركات:
والتوفيق درجات متفاوتات، كما أن الخذلان كذلك دركات متباينات:
فمن الناس موفق: يترقى في المعالي، ويتوقى المخازي، فلا تراه ناظرا إلا إلى الفردوس الأعلى، ولا ساعيا إلا في طاعة، ولا ناطقا إلا بذكر، ولا ساكتا إلا لفكر، يحتسب نومته كما يحتسب قومته، فحياته كلها طاعة، وأوقاته كلها عبادة، أولئك أهل الله وصفوته من خلقه السابقون المقربون.
ومنهم المخذول: الذي تيسر له أبواب المعاصي والسيئات، فهي تناديه أينما حل، وتسارع إليه حيثما نزل أو ارتحل، وهو يجهد في النيل من الملذات والشهوات، لا يفرق بين حلالها وحرامها، أو طيبها وخبيثها، يترقى من ذنب إلى ذنب، ومن معصية إلى أختها.. كلما كاد أن يغلق عليه باب منها إذا به يفتح له أبواب، فهو موفق للغاية، ولكن في الخزي والشر، فهو توفيق للخذلان أو خذلان عن التوفيق..
أمكر في الوصول إلى الشر من الثعلب، وأخبث من الذئب، وأحرص من الكلب، وأصفق من الخنزير، وأدأب من غراب، وأصبر من حمار.. فهو إما من الكافرين أو ممن هو إلى الكفر أقرب أو من الفاسقين.
وبين هاتين المنزلتين درجات ودركات، وطبقات متفاوتات، صعودا إلى الدرجات، أو نزولا وانحدارا إلى الدركات.. والموفق السعيد من أعطي عالي الهمم وجنب المخازي والفتن.. ولا يجمع الخير كله إلا المصطفون الأخيار.