24/5/2006
منهجية التربية الدعوية - محمد أحمد الراشد
الصحوة نت - قراءة: مجيب الحميدي
لاتفتقر الدعوة اليوم إلى الأنشطة الدعوية على أهميتها قدر افتقارها إلى المنهجية التي تصوب مسار ومضمون هذه الأنشطة وتضاعف قيمة العمل، فالعمل الذي يجيء في مكانه المناسب، أو وقته المناسب يكون أكبر بكثير ممّا لو يكون في وقت آخر و الثمرة الكبرى لهذه المنهجية أنها توفر الطاقات، وتجعل للعمل الصغير أثرا مضاعفا ومن هنا تأتي أهمية الحديث عن منهجية التربية الدعوية ويكتسب الحديث أهمية إضافية إذا كان المتحدث بحجم خبرة وموسوعية المربي الكبير الأستاذ محمد أحمد الراشد المتخصص في فقه الدعوة الإسلامية
منهجية التربية الدعوية كما يتصورها الراشد في كتابه الجديد (منهحية التربية الدعوية) يجب أن تركز على كسر القوقعة والخروج إلى الحياة الفسيحة، والتفاعل الاجتماعي وتحقيق الكتلة البشرية الإسلامية الضاغطة في معترك الحياة:
ويؤكد الراشد على أهمية تمحور منهجية التربية على الإيجابية والإبداع وأشار الراشد أن الداعية كان في زمنه الأول متلقّياً، يُراد منه حسن التلقي، يُلقى له الكلام الإيمانيّ، يُروَى له خبر الأولين، ويُراد منه أن يحسن الاستماع، ويفتح القلب لتلقي مثل هذه التربية وهذا أمر جميل وهو الأساس في صياغة العناصر الإسلامية في المرحلة التأسيسية.
و أكد الرشد أن التربية اليوم هي عملية متكاملة فيها هذا التلقي، وفيها أيضا المسائل العملية التي تؤخذ من خلال المباشرة والمعاناة والانصباغ العملي بذلك، وفيها قضايا أخرى، فأن تدير العمل بواسطة مجموعة عاملة في مؤسسة، بنظام إداريّ، كقضية صحفية أو مشروع مشترك مع الآخرين هذه عملية تربوية .. فقضايا الحياة تتنوع وليست قضية التربية التلقينية هي النوع الوحيد فيها، فيمكن أن أن تتربى من أعمالك اليومية في المؤسسة، أو تعاني معاناة في عمل صعب.. فالحياة متنوعة، وتفاصيلها كثيرة، ولابد لنا من أن نوجد نموذجا هو الذي يعرف ماذا يليق لكل حالة من الحالات، وهذا الذي نعنيه بالإيجابية، فالبعض يبقى ينتظر حتى يؤمر فيتحرك، والبعض يأخذ وَصْفات جاهزة، فإذا لم تصله الأوامر من قادته يبقى بدون حركة، يصير له سنوات طويلة في الدعوة، ولكن لا يتحرك إلا أن يُقال له تحرّك وهذه خطة التحرك، وهذا يمينك وهذا يسارك.
ويؤكد الرشد أن المبادرة الذاتية والإيجابية والابتكار والاختراع ونفسية التملص من الحصار ونفسية التمرد على الواقع المتخلف ونفسية الاستشراف.. هذه أخلاق أساسية في تكوين خلق الداعية المسلم اليوم. وإلا يكون طبعة من نسخة واحدة متكررة.. و في مساق آخر يؤكد الراشد على أهمية التربية على الأصالة الشرعية والتوسع في العلم.
ويشير الراشد إلى أن هذه المسألة كثيرا ما ينساها دعاة الإسلام، يعرفون من الإسلام العناوين المهمة، يعرفون من الإسلام العاطفة والإيمانيات الدفاقة، ولكنهم لا يذهبون إلى أبعد من ذلك بتعلم الموازين الشرعية والقواعد في تعارض المصالح والمفاسد، وفي سدّ الذرائع وحكم الضرورات وفي رفع الحرج وأمثال ذلك مما قاله الفقهاء، وأن بعض المسائل ثوابت شرعية لا يمكن التنازل عنها، وبعضها متغيرات يمكن أن يتعدد فيها الاجتهاد، حسب الزمان والمكان والظرف والمصالح... كما قال الفقهاء.
هذه القضايا والتمييز بين الثابت والمتغير لا يأتي إلا بمطالعات شرعية متعمقة وليست في كلمات يسيرة تؤخذ من أفواه المتكلمين. في المؤتمرات و المحاضرات. كلا لابد من حَنيُ الظهور فوق هذه الكتب العلمية الشرعية ذات الأوراق الصفراء القديمة التي بدأ البعض يزهد فيها هو مظنة وجود العلم النافع ومظنة وجود الأصالة في التلقي.
وأشار المؤلف إلى أن التناول المنهجي يتطلّب منا أن نضع جذور المسألة العميقة، والإحاطة بالأمر الواقع بنظرة شمولية، وليس من خلال زاوية معينة.
وأكدت ما نريده من هذا الواقع ليس مجرد معرفة خبرية، بل نريد تطويره وفق مفاهيمنا، ووفق مصالحنا، بحيث يصب في وادينا. فإذاً هو عمل نسعى له ويؤثر في المستقبل. فأنا لا أدع المسألة تسير بنوع من التلقائية، المهم أنني وفق ثوابت فكرتي ووفق ثوابت مصلحتي أن أفهم ما هو هذا الواقع وإلى ما يُراد تطويره؟ هذا في خلاصته التناول المنهجي للقضايا، وفي سياق الإشارة إلى نواقض المنهجية أدرج المؤلف المفاضلات الأحادية محذراً من الدخول في هذه المفاضلات كأن يكون هوانا في مسألة وفي جانب، فكأننا نفهم الواقع والمستقبل وفق هذا الجانب كأن يقال: أيّهما أهم العلم أم الأدب؟فهذا سؤال في أصله فاشل. سؤال في أصله يهدم حقيقة من حقائق الحياة. الأدب مُهمّ والعلم مُهمّ، وهذا له مجال وهذا له مجال. فالقضايا تحكمها النظرات النسبية، وتقيس على ذلك المسائل في قضايا الحياة جميعا. لا بد أن نعترف بالموازين النسبية في فهمنا لطبيعة الحاجات الكبيرة، وأن بينها تكامل.. ما لم نفهم الحياة بهذه الصورة فإننا نقع في التفسير الأحادي الذي يفهم الحياة في الجانب الذي يكون هواه. إن أحادية التفسير هو دائما النقيض لمسألة المنهجية، والتَّقيّد في الفهم من غير نسبيّة هو نقيض المنهجية.
يؤكد المؤلف أن هذه المفاضلات مفاضلات جزافية فالبعض قد تكون له قدرة للعلوم الشرعية، والبعض قد تكون له طاقة للتحليل السياسي والممارسة الميدانية السياسية، والبعض الآخر قد يكون صافقا بالأسواق، والبعض قد يكون على طريقة أخرى. فليس معنى هذا أن يقوم أحد بمقام التفضيل ويقول هؤلاء يحتكرون الصواب، وأما هؤلاء فأهل خطأ، هؤلاء هم الأولى في هذا الزمن وقولهم هو المقدم والآخرون ينبغي أن يتأخروا، أو ما شابه هذا من الأقوال الجزافية.. كلا بل هم حَلقة مُفرغة ليس فيها ضلوع، على بُعدٍ مُتساوٍ من مركزها ومن نقطة المحور.. فكل العاملين للإسلام فيهم خير وفيهم نوع من الطاقة التي تتكامل.. وتلك سنة الله.
ويشيرالمؤلف إلى أن الداعية المسلم المعاصر يجب أن يكون واعداً، يتلألأ وجهه بنور الإيمان والعلم، ولمعات الوعي، والانسجام مع ألوان الفن المعرفي، والقسمات الحضارية، حتى إنك لتدرك ما تصل إليه نظراته من مدى بعيد وعلى الداعية المعاصر أن يستفيد من عطاء التربية المنهجية الدعوية التي صقلتها تجارب المراحل السابقة وهذّبتها ردود الفعل تجاه أخطاء ارتكبت كشفها النقد الإيجابي، وأوضحها الرجوع المتأني إلى الفقه الشرعي والتحليل الموضوعي، وزادتها وضوحاً المعرفة بالواقع والمقارنة التاريخية، فكان من كل ذلك ما هو أشبه بعملية «النخل» و«الغربلة» بمنخل الموازين والقواعد والتجارب، فنتجت من ذلك «صفوة» مؤهلة للقيادة الناجحة والخطو الموزون والتفلّت من المخاطر.
وأكد أن من الأهمية بمكان أن تتضح الخطة المرحلية وخطة المدى البعيد في أذهان الدعاة في أي قطر، معاً، قبل الخطو والممارسة العملية، ليكون الفهم الجامع الشامل حارساً للمسيرة الدعوية من أن يدفعها دعاة مغامرون إلى ارتكاب شطط وتعجّل وأعمال ارتجالية غير مدروسة، إذ أن شيوع المعاني الخططية المتفق عليها تؤسس حساسية بالغة لدى الدعاة ضد كل توجّه مخالف لها يروّج له متهور أو متحمّس يخالف القرارات والاختيارات الجماعية التي ما جاءت وما سُنّت إلا بعد شورى وحوار وتقليب لوجوه النظر والاستعانة بالكم التجريبي العظيم في الأقطار الأخرى وعند الأجيال السابقة، وسينتصب كل داعية آن ذاك رقيباً على أعمال أصحابه وأقرانه قبل القيادة ورقابتها، وسيعظ ويكبح جماح الفائر قبل أن يرفع عقيرته، ويمنع الإغراب والشذوذ أن يمتدّ ويستطيل ويكون قضية، لأنه الأقرب، ويعامل أقرانه على السجية، فيعرف ما هنالك من فلتات الألسن، حيث لا يمنعها تكلّف أو حياء حين يكون الخطاب مع الوجوه.
لكن الوصول إلى هذه المنزلة الصائبة من تأسيس الرقابة التلقائية الإيجابية في القاعدة يلزمه وجود شرح للخطط، بوفاء وتفصيل وتمثيل، ونشر لفقه الدعوة، وكشف لمفاد الدراسات الميدانية، وتوصيف الواقع، ومحاولة التفرّس في المستقبل، وهذا كله واجب تربوي ريادي ثقيل ليس بالسهل، لكنه إن نُفّذ وهَب بإذن الله إتقاناً، وتوحيداً لرأي الصف، واستثارة لإبداع الدعاة الكامن، وجرأة على اقتحام الصعب، وأملاً وثقة، وموازين تمنح الانسجام والتجانس، مع الطاعة الواعية، والتعامل الرجولي الرفيع الكابت لكثير من وساوس الفتن.
ويشير المؤلف إلى أن إتقان الدعاة لهذا الدرس الجلي الذي تفصح عنه التطبيقات السابقة الناجحة لخطة التربية المنهجية في طورها الأول سيفضي بإذن الله إلى نتائج أقوى وأعمق تأثيراً إذا حصل تجويد بشرح الخطط، ومعرفة الواقع، والدراسات المستقبلية، ومزيد الاطلاع الشرعي، وتوسيع العمل التخطيطي.
ويؤكد الكاتب أن العمل الدعوي الناجح الذي يوازي المقاييس العصرية والتطور الحضاري يلزمه الانتقال من العفوية والارتجال والصيحات البدوية والتعميمات الغامضة والمسارات العاطفية إلى أداء متقن قياسي عبر تمكين أهل التخصص في كل فن
وفي هذا السياق يشير الكاتب إلى وجوب حيازة الدكتوراه، وهي هوية لاحتلال المراكز المتقدمة. وتكثيف الخبرة والتجرد للفن الذي يتم التخصص فيه، وتطبيق منهج تطوير. والعمل مع الأقران كفريق عبر مؤسسات ومراكز حكومية أو دعوية أو شركات، والإعلان عن النفس وإشعار الناس بوجودهم وبآرائهم عبر تأليف الكتب والكتابة في الصحف والظهور في التلفزيون وحضور المؤتمرات.
ولصعوبة هذه الشروط والمستويات يرى المؤلف أن صناعة «داعية متخصص خبير» واحد يلزمه خمس دعاة ربما لينجح في النهاية واحد، ولذلك يلزم التبكير في توجيه أصحاب الذكاء والقابليات الفطرية الذين تساعدهم ظروفهم العائلية على ذلك، إذ الرحلة طويلة ولا بد من استثمار الفرص التي تتاح، ويؤكد المؤلف أن مهمتنا التربوية يجب أن تكون أوسع من المنهج التربوي الداخلي، وعليها أن تسعى إلى إحداث تأثير قبلي وبعدي.
و يرى الراشد أن هذا الأمر لم يتضح عند كثيرين من الذين يظنون أن التربية الدعوية إنما هي عملية محدودة محصورة بحفظ آيات وأحاديث ومدارسة كتب ، وهذا وهم، والصواب أن جميع أنواع الأعمال الدعوية لها مردود تربوي أيضاً، يرتفع بالمعنويات، ويعلم الدعاة تحليل الأحداث، ويزودهم بحجج، ويمنحهم منطقاً قوياً في التخطئة والتصويب، ويسهّل مهمتهم التبشيرية كثيراً. والأثر التربوي للعلم والكتب أوضح، والممارسة التجارية تقوي الشخصية، وتسري عدوى هذه القوة إلى غير التاجر عبر الحياة الجماعية، ثم هل التربية أبعد من اتعاظ بحدث قديم يرويه مؤرخ، ورمز عاطفي يترنّم به شاعر، واجتهاد جديد يزعمه فقيه؟
من هنا فإن جميع الأعمال الدعوية يمكنها أن تُحدث تأثيراً قبْلياًّ في نفوس أنصار الدعوة والمبتدئين، بل في أناس لا نعرفهم يعيشون في زوايا المجتمع الكبير، يبلغهم خبرنا أو يقرأون صحافتنا وكتبنا، ويشاهدون وقارنا وعفافنا، وكل ذلك يربيهم ويختصر لنا الطريق التربوي معهم إذا التحقوا بنا، ومعنى ذلك أن التربية الدعوية لا تبدأ من الفرد من يوم جلوسه في مجالسنا، بل قبل ذلك بكثير، وكلما زاد إعلان الدعوة عن نفسها، وأظهرت زعماءها وعلماءها، وتفنّنت في طرائفها، وتنوعت خُططها زاد هذا التأثير التمهيدي التربوي موضوعياً، وانتشرت أفقياً بصورة أعرض.
ويؤكد المؤلف على أهمية الإنطلاق من مراكز بحث ومؤسسات دعوية ما استطعنا؛ مشيراً إلى أن سعة العمل الدعوي وكثرة الدعاة أوجب التوسع في إنشاء هذه المؤسسات وجعلها مثابات انطلاق وأوبة، وهذا يحصل بالتنويع، حتى ولو انثلم بعض الوصف المؤسسي في بعضها، فالصحيفة الدعوية «مؤسسة»، والمدرسة الإسلامية «مؤسسة»، وكذا دور النشر، والجمعيات الشرعية، والنوادي الأدبية، والمجامع العلمية والتاريخية، والروابط التخصصية، وحتى الشركات التجارية أحياناً، فيكون من كل ذلك قرابة مائة مؤسسة دعوية، في الواحدة منها العشرة من الدعاة، والعشرون، إلى الخمسين والستين ربما، وبذلك تقضي على الوساوس والبطالة والتسيب والفردية والفوضوية، ويتكامل سير موزون مخطط، يقول الراشد: وقد أعجبني جداً قول قائد الدعوة في إندونيسيا في مثل هذا الموطن حين قال: وإذا لم نجد مركزاً أو جمعية أو مدرسة لنحقق مثل هذه التحريكات أعنّا الداعية على افتتاح دكان له أو مكتبة صغيرة، لنعلّمه مخالطة الناس ونيسر له الاتصال بهم، وهو قول صحيح يدل على وعي، ونسي أن يضيف ما ذكرناه من استثمار فرصة التملّك ومغزى المثابة.