بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
يذكر هذا ابن الجوزي في صفة الصفوة في الجزء الرابع، رجل اسمه أبو قدامة الشامي - وهو غيرابن قدامة -
يقول أبو قدامة الشامي :
أغارت جيوش النصارى على بلدة من بلاد الشام .
يوم كانوا إذا أغاروا وجدوا الليوث أمامهم، يوم كانوا إذا أغاروا نيل منهم ما نيل ورجعوا ليدفعوا الجزية صاغرين، فماذا يعمل؟
ذهب إلى المسجد الذي تعقد فيه مؤتمرات المسلمين، والذي تعقد فيه كل مشاكل المسلمين لحلولها، والذي تطرح فيه الآراء ومنه تنطلق الجيوش والكتائب، والذي ما كان صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً إلا وانطلق من هذا المسجد يذهب أبو قدامة إلى المسجد، ويقف على منبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وينادي في الناس على المنبر في خطبة الجمعة -حضر النساء والرجال- نداء عظيماً ويقول: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف:10-11].. انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41]
لم يترك آية من آيات الجهاد، ولا حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فاشرأبت الأعناق إلى الجنة وأرادت ما عند الله، منهم من يريد اثنتين وسبعين حورية من الحور العين، ومنهم من يريد ما هو أعظم من ذلك كالنظر إلى وجه الله الكريم.
فخطب أبو قدامة خطبته وصلى الناس، وكل في نفسه أن يدَّخر له عند الله منزلة بمشاركته في هذا الجهاد حتى النساء والأطفال، وخرج ذاهباً إلى بيته وبينا هو في الطريق في أحد الأزقة، وإذ بامرأة تقول: السلام عليك يا أبا قدامة ! قال: فقلت في نفسي: لعلها تريد أن تفتنني ؛ لأنه يعلم أن النساء في الغالب فتنة، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء. قال: فلم أرد عليها. فقالت: السلام عليك يا أبا قدامة ! قال: فلم أرد عليها. قالت: السلام عليك يا أبا قدامة ! ما هكذا يفعل الصالحون. قال: فتوقفت. قال: فجاءت وقالت: يا أبا قدامة ! سمعت منك ما قلت على المنبر، سمعت آيات الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا ظرف أقدمه علَّني أن أكتب عند الله من المجاهدات في سبيله فقال: ماذا فيه؟ قالت: فيه ضفيرتان من شعري، والله! لم أجد ما أقدمه أغلى من هاتين الضفيرتين، اجعلهما لجاماً لفرسك في سبيل الله، علّ الله أن يكتبني في عداد المجاهدات في سبيله، فأجهش أبو قدامة بالبكاء، وقال: والله! هذا هو أول النصر.
هذه بشارة النصر؛ أن تقدم امرأة شعرها يوم لم تجد ما تقدمه إلا هذا، جادت بما لديها يوم لم تجد إلا شعرها و هو أعز ما لديها، فأخذه وذهب لبيته وبقي يجمع في الصفوف.
وفي اليوم الثاني ينطلق بكتائب الإيمان يريد أن يقابل الروم في موقعة من المواقع، وإذ بذاك الطفل يقابله، طفل صغير أمثاله عندنا لا زالوا يلعبون في الشوارع لا هدف لهم ولم يغرس فيهم أي هدف.
يقول يا أبا قدامة ! أسألك بالله إلا جعلتني في عداد المجاهدين في سبيل الله.
قال: يا بني! أخشى عليك أن تطأك الخيل والإبل بأخفافها.
قال: أسألك بالله لا تحرمني الشهادة في سبيل الله.
أطفال -يا أيها الإخوة- بهذه الهمم؛ أسأل الله يجعل في الأمة رجالاً كهؤلاء الأطفال.
ويتقدم أبو قدامة مندهشاً فيقول: أقبلك بشرط واحد: إن استُشهدت في هذه المعركة أن أكون من شفعائك عند الله لأنك ستشفع في سبعين. قال: قبلت الشرط. فركب معه، وأبو قدامة يحار في تلك المرأة ويحار في هذا الصبي. ويقول: والله! جيش لجام الفرس فيه ضفائر امرأة وفيه مثل هذا الطفل يريد أن يموت في سبيل الله؛ جيش لا يهزم بإذن الله:
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج:40].
أخذه رديفاً له على دابته، وبينما هم مقبلون على الروم، قال: يا أبا قدامة ! وكان يحمل معه خرجاً لا يعلمون ما فيه- فقال: يا أبا قدامة ! أسألك بالله ثلاثة أسهم أرمي بها في سبيل الله. قال: يا بني! ستضيعها ولا نستفيد منها دعها لمجاهد يوغل بها في الروم. قال: أسألك بالله ثلاثة أسهم. قال: لا تنس الشرط. قال: لا أنساه. قال: فأعطاه ثلاثة. وعندما قابلوا الجيش أخذ الأول وقال: السلام عليك يا أبا قدامة ! وأطلقه فقتل رومياً، ثم أخذ الثاني وقال: السلام عليك يا أبا قدامة ! فقتل رومياً آخر، ثم أخذ الثالث فقال: السلام عليك يا أبا قدامة ! سلام مودع ثم رمى به فقتل رومياً وجاءه سهم طائش فضربه في لُبته فسقط من على الفرس.
يقول أبو قدامة : فسقطت وراءه، وأقول له: يا بني! لا تنس الوصية، أي: لا ينسى أن يشفع له عند الله جل وعلا، قال: يا أبا قدامة ! خذ هذا الخرج وأعطه أمي، قال: ومن أمك؟ فقال: أمي صاحبة الضفيرتين.
الله أكبر! أُسَر يخرج منها أمثال هؤلاء هي أُسَر المؤمنين، هذه هي الأسر التي نرجو من الله أن يكثر من هذه الأسر في أسر المؤمنين.
فيندهش مكانه ويجهش بالبكاء ويجلس، ويقول: الله أكبر! جيش فيه مثل هؤلاء وفيه مثل هذه الأُسَر لا يهزم أبداً، أبشروا بالنصر أبشروا بالنصر.
ويأتوا ليدفنوه فيفتحوا له القبر ويضعوه وبينما هم يدفنونه إذ لفظته الأرض فتعجبوا وخافوا واندهشوا.
يقول ابن الجوزي : والموقف يستحق ذلك -أن يدهشوا-
قال: فأخذتني سنة من نوم -والناس يدوكون ويقولون: لعله لم يستأذن أبويه، لعله مراء، لعله كذا .. مع أنه لم يبلغ الحلم، ولم يكلف بهذا كله- وإذ بمناد يناديني ويقول: يا أبا قدامة ! اترك ولي الله. يا أبا قدامة ! اترك ولي الله.
هؤلاء هم أولياء الله الذين أخذوا طريق الله وأخذوا طريق رسول الله؛ لا أولياء الشر والبدعة والخرافة، إن هؤلاء هم الأولياء.
أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأخذ عن الوحي والذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي.
وإذ بطير تنزل من السماء فتلقط لحمه من على عظمه حتى لا يبقى على عظمه شيء، وتأخذه إلى السماء.
قال: فزادت الدهشة. قال: ثم دفنا عظامه وذهبنا، وكان أن نصرنا في هذه الموقعة، ورجعنا بالخرج هذا لنذهب به إلى صاحبة الضفيرتين أم الولد لنعزيها في ابنها.
قال: فجئت إلى البيت وطرقت الباب فخرجت أخته وقالت: أمهنئ أم معز؟ قال: بل مهنئ. قالت: إذاً استشهد أخي. قال: إي والله لقد استشهد. قالت: إذاً فهنئنا، لقد روزئنا بأبينا فاحتسبناه عند الله، وروزئنا بأخينا الأكبر فاحتسبناه عند الله، والآن روزئنا بأخينا الأصغر فنحتسبه عند الله، فلنا ما لهم في الجنة عند الله.
فتخرج أمه فيقول: أحسن الله عزاءك في ابنك. قالت: أمعز. أم مهنئ قال: بل مهنئ. قالت: وما أدراك؟ قال: أنه شهيد. قال: لذلك علامة ذكرها لي.
فما كان منه إلا أن قام ليذكر هذه العلامة.
وقال: يوم أن دفناه لفظته الأرض وجاء الطير من السماء فالتقطت هذا اللحم فلم يبق إلا عظمه، قالت: إذا فهنئني الآن، إنه شهيد بإذن ربه تبارك وتعالى.
قال: فما هذا الخرج الذي أوصاني أن أعطيك إياه؟ قالت: أتدري ماذا فيه؟ ثم أخرجت ما فيه فإذا هو قيد وإذا هو لباس من صوف خشن.
قال: ما هذا يا أمة الله؟
قالت: كان إذا جنه الليل أخذ هذا القيد فقيد نفسه، ثم أخذ هذا اللباس فلبسه، ثم بقي طول ليله يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه يبكي ويضرع إلى الله، فإذا جاء وقت السحر -وقت نزول الرب تبارك وتعالى: {هل من داع فأستجيب له } يوم يأتي ذاك الوقت- يرفع يديه ويقول: اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير شهيداً في سبيلك، اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير شهيداً في سبيلك.
طفل صدق الله فأعطاه الله ما سأل فله في الجنة ما لا عين، رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
رزقنا الله وإياكم الفردوس الأعلا اللهم امين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين