أخوتي ... نقلت لك هذه القصة القصيرة
لتكون لنا نبراسا ومرجعا ... عن كيفية القصص التي نحلم
لنقرأها هنا بالملتقى الأدبي
... لترقى بالذوق العام
ليكون للقصص الأدبية نكهه أخرى عن كل القصص التي يغص بها عالم الانترنت
سأتركمم معهاعسى ان تحظى باعجابكم
--------------------------------------------------------------------------------
يوم الزئبق
مازلت أتذكر كيف كنت أقرأ درس الفيزياء أكثر من مرة كي أتأكد من خلو تجاربه من الزئبق .
أكرهه !
عندما يقتحم الزئبق درسنا , كنت أجلس في آخر الفصل , أذكر كيف كانت أستاذتنا تسكبه في الأنبوبة , لا أحتمل رؤيته , ثقييييل لونه القلق , وحده الزئبق من يتقن فن المراوغة ؛ لم يكن كالماء سائلاً , ولم يكن صلباً , كان يتأرجح بينهما , وكنت أكره التأرجح !
******
رمادي كان صباحي
بيدين مرتعشتين أرتدي عباءتي بعد مكالمة هذا الصباح, لم آخذ معي سوى صحيفة ومذياعٍ وهاتفي المحمول هذا كل ما أحتاجه لمواصلة العيش ؛ إذ ثمة طعام هناك , لطالما انتظرت , أفكر كيف لي أن أتخلص منه هكذا , وكأن الأمر عادي , وهل يرحب قلبي بهذا الضيف الجديد ! ماذا لو لم .............!
( مركز الأمير سلطان لجراحة القلب ) كانت العبارة الترحيبية المعلقة على واجهة المركز , أذكر جارتنا- رحمها الله - حدث وأن زرتها في هذا المستشفى في يوم مضى , وكيف تنقلتْ بين أدواره الثلاث بألوانه الوردي والأخضر والأزرق لتخرج منه إلى قبرها .
يا رب ألهمني قوة في طرد الرمادي من رأسي .
*****
في الدور الوردي كان مكاني , ترغمني الممرضة على ارتداء لباس المستشفى ..
ماذا لو كانت المرة الأخيرة التي أخلع فيها لباسي ؟ أخضع لأوامرها كطفل صغير بين يدي معلمه في يومه الدراسي الأول , أرتدي لباس المستشفى لم يكن أبيضاً هذه المرة كان وردياً ,لعلها مراوغة أخرى من الموت ..
أطالع الجريدة , خوفٌ يتربص بي ؛ لماذا ؟ لماذا في هذا اليوم فقط تنفرد الجريدة بنقد قصيدة أمل دنقل ؟
(في غرفة العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض ..
لون المعاطف أبيض ..
لون الأسرة , أربطة الشاش والقطن ...
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن )
التفاصيل الصغيرة تشير إلى شيء ما , زئبق يلوح لي , كان يبتسم متهكماً , هذه المرة لم يكن في أنبوبة كان في سطل كبير , أحس بقربه الشديد مني , يصعد للأعلى ببطء ثم ينسكب بالبطء نفسه .
تدخل الممرضة لتخبرني بضرورة انتقالي من الدور الوردي إلى الدور الأخضر ..
يا إلهي لقد اقترب وداعه!
***
في الأخضر كنت
و ممرضات هذا القسم كبيرات في السن حاذقات , وأطباؤه متواجدون بشكل دائم , يكررون الدخول عليّ, بشكل يوحي إليّ خطورة مكاني .
أطفح قلقاً .. ساعات وأتخلى عنه ! ويستبدلون صمام قلبي بصمام معدني .. سيقحمون معدناً جامداً في قلب نابض بالإيمان ..بالعطاء ..بالحب !
هل سأغدو بعدها كائناً بشرياً تماماً ؟؟!!
كان الزئبق هذه المرة قد اتخذ من البحر شكلاً له
كبيـــــــراً كان
مخيـــــــفاً كان
أمواجه المتلاطمة تقترب مني ,توشك أن تغرقني .
والزئبق سائل يسبب التآكل , هذا ما تقوله معلمة الفيزياء , كدت لحظتها أموت رعباً
لم يحدث أن قرأت عن فوبيا الزئبق ! ماذا لو كان الزئبق أكذوبة ولا يتشكّل إلاّ لي؟ !
يقطع حبل هواجسي الزئبقية رنين هاتفي المحمول , لرنة خصصتها للرسائل , ترى أي قلب يتذكرني هذه اللحظة ؟
بارتباك أتلقف هاتفي ...
( عليك الحضور لمقر الجمعية لدفع المبلغ المطلوب لتجديد كفالتك لليتيم – جمعية إنسان )
بدأت أمواج الزئبق تهدأ قليلاً!!
***
الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل
ببرود تضع الممرضة رداء العمليات الأخضر على الطاولة مع رقائق الذرة , بصوت يتجرد من الآدمية تأمرني أن أتناول الطعام كاملا فورائي صوم طويل لأجل العملية ثم علي أن ألحقه بحبة منومة , أسألها حول إمكانية الاحتفاظ بصمامي محنطاً , ترفع حاجبيها بسخرية هامسة ( you are crazy! ) , وبالبرود ذاته عند إلقائها للأخضر على الطاولة خرجت ..
هل سيرمى خارجاً ! هل سيكون صمام قلبي طعاماً للقطط ؟؟
لحظتها أوشك الزئبق أن يذيبني , كان يرتفـع .. يرتفــع.. يكاد يملأ المكان , وكنت أجاهد للهرب منه , بآلية أدير مؤشر المذياع ,كان المقريء يتلو سورة يوسف بصوت ندي طري , الآيات تسري في دمي , أحس بها , سحابة طمأنينة تملأ غرفتي الخضراء ..
أتوضأ وأهرع للصلاة ..
أخذت هواجسي تأخذ شكلاً جديداً ..
والزئبق يتبخر شيئاً فشيئاً ..
نور أحسه لا أدري إن كان مبعثه روحي أم ضوء النهار !
****
بعينين نصف مغمضتين
أجواء غريبة ذكرتني بالمنامات التي تأخذ طابعاً غير عادي , أجدني في غرفة تتنازع فيها الأردية الخضراء , وقد سلمتهم قلبي !
غمغمة أسمعها لا أتبين لها فهماً , جسدي مكبل بحزم أسلاك ملونة , أجهزة تحاصر المكان , أحاول جاهدة الكلام.
ثمة أنبوبة تنفس كبيرة في فمي !
هذه المرة لم تكن أنبوبة زئبق
فالزئبق الثقيل المراوغ المخيف اختفى
لا وجود له إلا في معمل الفيزياء ...