حماس واحد .. السلطة مائة صفر !
بقلم : شريف عبد العزيز
مفكرة الإسلام: في مفارقة عجيبة تكشف عن طبيعة كل معسكر وأهدافه وخططه وحلفائه، وتضعه في الخندق المناسب له تماماً، في مفارقة أليمة تكشف لنا عن حجم الخيانة وحقيقة المؤامرة ومرارة الواقع، شهد يوم الجمعة الماضي موقفين في غاية الاعتبار، ففي الوقت الذي كانت سيارات الجيش الإسرائيلي المصفحة تتحرك في هدوء عابرة أسوار سجن "هشارون" الرهيب، وهي تحمل بداخلها تسعة عشر أسيرة فلسطينية وطفل دون العامين هو أصغر أسير في العالم، وكاميرات وسائل الإعلام من كل أنحاء العالم ترقب المشهد الذي تميزت له قلوب الصهاينة من ساسة وعامة، بعد أن أجبرتهم صلابة موقف حماس التفاوضي بخصوص الأسير الصهيوني "جلعاد شاليط"، ووجد قادة الصهاينة أنفسهم أمام عزيمة جبارة وإصرار فولاذي لقادة حماس علي عدم إمدادهم بأي معلومات عن" شاليط " حتى يفرجوا عن عدد من الأسيرات الفلسطينيات، في نفس اليوم الذي انتصرت فيه إرادة المقاومة وأجبرت سدنة الغطرسة الصهيونية علي الإفراج عن الأسيرات، كانت السلطة المنتهية ولايتها وصلاحيتها وآدميتها ونزاهتها تسحب طلبها المقدم للأمم المتحدة بخصوص بحث تقرير "جولد ستون" الذي يدين إسرائيل بارتكاب جرائم حرب علي غزة [وإن كان التقرير أصلاً يخلو من أي إدانة مباشرة لإسرائيل ويساوي بين الضحية والجلاد، وهو تقرير منحاز بالكلية لوجه النظر الإسرائيلية للحرب الغاشمة علي غزة] كانت حركة فتح صاحبة السلطة تسدد أكبر طعنة ليس للقضية الفلسطينية وحدها ولكن للكرامة العربية والعزة الإسلامية وتقدم مثالاً سيحفظه التاريخ في الخيانة وبيع القضية والتنازل عن الأرض والعرض، حتى وصفت بعض المصادر طلب السلطة بإرجاء مناقشة التقرير إلي مارس المقبل بأنه بمثابة: بيع أشلاء أطفال غزة المحترقة بالفسفور الأبيض المحرم دولياً بثمن بخس في سوق الضغوط الأمريكية والإسرائيلية.
الموقف الذي وقفته حركة حماس المسيطرة علي القطاع يتماشي مع كونها حركة مقاومة وجهاد نجحت وربما لأول مرة في توظيف السياسي لخدمة الجهادي، وتحقيق نصر كبير جمع لأول مرة بين الحنكة والخبرة السياسية، والصمود الجهادي كحركة من أكبر حركات المقاومة في العقد الأخير.
كما أن الموقف الذي وقفته حركة فتح ممثلة السلطة يتماشي مع مستجدات الأوضاع داخل هذه الحركة التي تخلت عن إرثها في التصدي للعدوان الإسرائيلي، وأصبحت أوثق حلفاء إسرائيل في المنطقة، تهتم بسلامة وأمن إسرائيل والمواطن الإسرائيلي أضعاف ما يهتمون [ إن كانوا أصلاً يهتمون] بالمواطن الفلسطيني الذي يعاني ويلات الحرب والحصار و الاحتلال، ولكن الموقف الأخير من السلطة كان بمثابة درس ليس فقط في الخيانة والعمالة والمصلحة، ولكن أيضا درس في الغباء السياسي الذي لا يستطيع أن يقدم عليه إلا من أعمى الله عز و جل بصره وبصيرته، والترجمة الوحيدة لهذا الموقف المشين أنه بمثابة انتحار سياسي تم الإعلان فيه من مبني الأمم المتحدة بنيويورك عن مصرع السلطة غير المأسوف عليها إلا من جانب أعداء الأمة.
حماس والإنجاز الكبير
كثير من المراقبين والمحللين تخوف من دخول حركة حماس لعبة السياسة والمجالس النيابية، بعدما كانت قد رفضت الدخول سنة 1996 وأصرت علي مواصلة حمل السلاح لمقاومة الاحتلال، بل اعتبر البعض أن ذلك الدخول بمثابة شهادة وفاة لحركة حماس كحركة كفاح وجهاد ومقاومة، ولكن الأيام والليالي والمواقف أثبتت غير ذلك، فالمقاومة وإن كانت قد خف صوتها قليلاً إلا إنها لم تتوقف في يوم من الأيام حتى في أشد الأزمات، أثناء الحصار والدمار كانت صواريخ المقاومة تقض مضاجع الصهاينة.
حماس بصمودها التفاوضي في قضية الأسير الإسرائيلي، وإصرارها علي عدم التنازل عن هدفها الإستراتيجي من القضية وهو الإفراج عن أكبر عدد ممكن من الأسري القابعين في غياهب السجون الإسرائيلية، قد حققت العديد من النقاط والأهداف في مرمي الخيانة والعمالة والتخاذل العربي والإسلامي تجاه قضية فلسطين والأراضي المقدسة منها :
1ـ أن حماس ردت علي منتقديها الذين نعوا عليها انشغالها بالسياسة علي حساب المقاومة، وأنها قد دخلت في دهاليز لعبة تعتمد علي الخداع والمكر والمصالح الخاصة، والرضوخ للضغوط الخارجية والحسابات الدولية والإقليمية، كما أنها ردت علي منتقديها الذين اتهموها بضعف الأداء الرياسي وافتقارها لقواعد العمل السياسي، وأن حمل السلاح يختلف عن إدارة شئون وزارة ودولة، فاستطاعت ببراعة تحسب لها الدمج بين السياسي والجهادي، والثبات علي المبدأ، فقدمت بهذا نموذجاً يحتذي به في التيار الإسلامي في سدة الحكم بلا تنازلات أو مداهنات.
2 ـ حماس برهنت بكل قوة أن الرقم الذي لا يمكن تجاوزه في القضية الفلسطينية، وأنها الممثل الشرعي الوحيد لشعب الفلسطيني، والسلطة الحقيقية في فلسطين، والطرف الأقدر علي تنفيذ التزاماته [ لا تنازلاته ] وتعهداته، والطرف الذي يجب علي كل من يريد سلاماً أو حلاً للقضية الفلسطينية أن يجلس ويتفاوض معه، وهو ما أدركه الاتحاد الأوروبي مؤخراً، فدفع بالوسيط الألماني في مفاوضات مباشرة مع حماس من أجل إنهاء قضية الأسرى، ولعل نجاح حماس في هذا الموقف أعطي إشارات خضراء للوسيط الأوروبي المنحاز، بضرورة إقامة علاقات دبلوماسية ولو منقوصة مع الشريك الأجدر والأحق بالمشاركة.
3ـ حماس وبذكاء شديد يحسب لقادتها والمسئولين عن إدارة شئون هذا الملف، لم يشترطوا علي إسرائيل الإفراج عن الأسيرات المنتمين لحركتها، وهم الأغلبية داخل السجون الإسرائيلية، بل جاء الأمر بعكس ذلك، فأربعة فقط من الأسيرات المفرج عنهم محسوبين علي حركة حماس، والباقيان ينتمين للتيارات والحركات الأخرى، ومنهم حركة فتح، وهم بهذا قد ظهروا بمظهر الزعيم والقائد لجميع الفلسطينيين بشتى انتماءاتهم، والمدافع الحقيقي عن الشعب، وقارن بين ما فعلته حماس، وما فعلته سلطة العمالة والنفاق سنة 2008 عندما اشترطت علي إسرائيل الإفراج عن الأسري المنتمين لها فحسب من أجل عودة المفاوضات، في حين تركت أسري حماس وغيرها في سجن المحتل، بمنتهي القسوة والتعصب الأعمى.
4 ـ حماس استطاعت بنجاحها في فك أسر الفلسطينيات أن تنقذ شعبيتها داخل فلسطين وخارجها، وهي التي شهدت تراجعاً في الآونة الأخيرة بسبب وطأة الحصار، وانهيار البنية التحتية، والمشكلة الطارئة مع بعض التيارات الإسلامية داخل غزة، والدمار الشامل جراء الحرب الصهيونية الغاشمة أواخر العام الماضي، واستمرار الخلاف مع حركة فتح، وتعثر المفاوضات بخصوص هذا الشأن، وهي أمور كلها نالت بلا شك من شعبية حماس.
5 ـ حماس برهنت بهذا الموقف وأيضا في مواقف كثيرة سابقة أن خيار القوة لا يجدي معها نفعاً، ولا ينال منها أو من عزمها وصمودها شيئاً، فإسرائيل حاولت عدة مرات تحرير أسيرها بالقوة والخيانة والمؤامرة، وكل ذلك فشل فشلاً ذريعاً، وإسرائيل وإن كانت قد أفرجت عن أسري من قبل عدة مرات، إلا أن تلك الخطوة كانت تأتي دائماً كنوع من الخداع، أو من أجل مصلحة أكبر، ويد إسرائيل فيها كانت اليد العليا، أما هذه المرة فتختلف بالكلية فإسرائيل ولأول مرة ومنذ فترة طويلة، تفرج مضطرة وهي تحت ضغط صلابة الموقف التفاوضي لحماس عن الأسيرات، إسرائيل ولأول مرة تجد نفسها في الخانة الأضعف، خانة المضطر الذي لا يملك خياراً سوي الرضوخ والموافقة، والمقابل دقيقتين فقط لا غير !
السلطة وأسباب الخيانة
الخطوة غير المبررة التي أقدمت عليها سلطة الاحتلال الفلسطينية المسماة فتح أثارت ردود فعل دولية وإقليمية وعربية وداخلية، أجمعت كلها علي إدانة الخطوة بدرجات متفاوتة، ففي حين تأسف بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة علي الخطوة، اعتبرها عمرو موسي أمين عام جامعة الدول العربية مثيرة للغثيان، وتنسف الجهود الرامية لإدانة الاحتلال الصهيوني، ومحاكمة قادته، بل اعتبرها نسف للإجماع العربي وخطر داهم علي الوحدة العربية، أما المنظمات الدولية المعنية بالقضية فقد اعتبرتها انتكاسة لحقوق الإنسان وضربة لجهود الأمم المتحدة للحد من مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية، أما الداخل الفلسطيني فقد كان أكثر فهماً ووعياً بطبيعة الخيانة والمؤامرة، فتعالت الأصوات المنادية بعزل قادة السلطة ومحاكمة عباس وفياض وغيرهما، وسحب الجنسية الفلسطينية منهم، هاجمت وسائل الإعلام العربية والفلسطينية القرار ووصفته بأنه خيانة واضحة.
فما هي يا تري أسباب هذه الخيانة الواضحة ؟
كلمة السر وراء هذه الخيانة المدوية والتي لن تغسلها بحور الأرض كلها هي" المال والمصالح الخاصة "، فلقد صرح مصدر مسئول داخل السلطة الفلسطينية لم يذكر اسمه كما صرحت بذلك صحيفة الشروق اليومية المصرية، أن سلام فياض قد تلقي تهديدات مباشرة من القادة الإسرائيليين بوقف التعاون الاقتصادي والتجاري مع الضفة الغربية، خاصة شركات الهواتف المحمولة، وغيرها من المشروعات التي لا يخفي علي الجميع داخل فلسطين وخارجها أن المتحكم فيها هم أبناء عباس وشلة المنتفعين في السلطة، وهو ما كان سيمثل ضربة قوية للأرصدة البنكية المتضخمة لهؤلاء المجرمين في سويسرا وأوروبا، كما تلقي فياض تهديداً آخراً بوقف التعاون الأمني والاستخباراتى، مما سيجعل السلطة في مرمي نيران خصومها وعلي رأسهم حماس، كما هددت إسرائيل فياض بكشف المستور في فضائح السلطة المالية والأمنية والأخلاقية، وكشف دور السلطة في استهداف قادة حماس وغيرها من رجال المقاومة، لذلك قام فياض بإقناع عباس وزمرته بضرورة سحب مشروع القرار، وبث في قلوبهم الفزع والرعب من مغبة الانقلاب الإسرائيلي عليهم، فجاءت الخطوة التي قام عليها سوق اللعن والإدانة من كل جانب، واختتم المصدر كلامه بقوله : أن الذي فعله عباس فضيحة سياسية وأخلاقية كبرى، وكان بمثابة الدش البارد الذي أصابنا بالوجوم.
عباس وشلته من رجال [ واعذروني في وصفهم بالرجال ] السلطة تجاوزوا كل الخطوط الحمراء، وكسروا كل الثوابت، وانتهكوا كل المحرمات، وأثبتوا بهذه الخطوة الغبية سياسياً، والقاسية إنسانياً، والمنحطة أخلاقياً، والمرفوضة دولياً ومحلياً، بأن الخيانة والعمالة لا تدع صاحبها حتى تفضحه وتجعله للعالمين آية، كما أنها لا تدعه حتى تهلكه وتقتله ثم تلقي به في مزبلة التاريخ، وهو المكان الأنسب والأجدر بهؤلاء.