الحمد لله الأول، والآخر، الظاهر، والباطن؛ الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحمد لله القائل في محكم التنزيل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ?1? خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [سورة العلق: 1-2].
أما بعد:
فإن (الإيجابية) و(السلبية) كلمتان شاع استعمالهما في الأزمنة الأخيرة استعمالاً كثيراً على كافة المستويات؛ يستعملهما الصحفيون، والمؤلفون، وعامة الناس، فتجدهم يقولون هذه (ظاهرة إيجابية) وتلك (ظاهرة سلبية) و(فلان إيجابي) و(فلان سلبي). ولا نعلم لهاتين الكلمتين مدلولاً شرعي، لكن كما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح؛ فالألفاظ أوعية للمعاني.
الإيجابية: تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء، والمساهمة، والاقتراح البنَّاء.
والشخص الإيجابي: هو الفرد، الحي، المتحرك، المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه.
والسلبية: تحمل معاني التقوقع، والانزواء، والبلادة، والانغلاق.
والشخص السلبي: هو الفرد البليد، الذي يدور حول نفسه، لا تتجاوز اهتماماته أرنبة أنفه، ولا يمد يده إلى الآخرين، ولا يخطو إلى الأمام.
وهذا التصنيف، أمر مشهور في القديم والحديث؛ فإن الله قسم الأخلاق، كما قسم الأرزاق. لكن الذي يهمنا في هذا المقام واقع الشباب المسلم الذين انتظموا في سلك الدعوة إلى الله، وحُسبوا من شباب الصحوة الإسلامية؛ فقد يصاب الشاب بداء السلبية، ويفقد مزية الإيجابية دون أن يشعر. تضمه حلقة ذكر فيظن نفسه إيجابياً ويرى أقرانه في الشوارع لا يشهدون ما يشهد فيقول: "هؤلاء سلبيون، وأنا الإيجابي".
فلا يسوغ أن نخدع أنفسنا، ونغش ذواتنا، بل علينا أن نتأكد بصورة حقيقيةٍ، من واقعنا وحالنا.
إننا حين نرصد هاتين الظاهرتين (الإيجابية)، و(السلبية)، في حياة المؤمنين، فإننا نجد أمثلة نادرة لقوم منَّ الله تعالى عليهم بالإيمان الفاعل، المتحرك، الذي نسميه في مصطلحنا المعاصر (الإيجابية). ومن تلكم الأمثلة:
أولاً: قصة مؤمن القرية
قال الله عز وجل: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [سورة يس: 20]، لنتأمل حال هذا الرجل الداعية، من خلال عدة وقفات:
الوقفة الأولى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}، جاء من مكان بعيد؛ لم يمنعه بُعد المكان أن يأتي ليبلغ دعوته، وينشر معتقده، فقد جاء من أقصا المدينة! فلم يقل: الشُّقة بعيدة، والمسافة طويلة، والأمر صعب، بل اطرح جميع هذه المعوقات. هذه واحدة.
والوقفة الثانية: إنه جاء {يَسْعَى}، ولم يأتي ماشياً!!؛ فإن ما قام في قلبه من الحماس، والحمية، والحركة، والرغبة، في نقل ما عنده إلى الآخرين، حمله على أن يسعى.
الوقفة الثالثة: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} وعادةً، لا سيما في الأزمنة السابقة، لا يسكن أقصا المدينة إلا بسطاء الناس، وضعفاؤهم، وفقراؤهم، فلم يمنعه ما هو عليه من شظف العيش ودنو المنزلة الاجتماعية، من أن يجهر بدعوته.
الوقفة الرابعة: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} كلمة ً صريحةً، واضحةً، صرخ بها بين ظهراني قومه. ولربما كان هذا الإنسان قبل أن يمن الله تعالى عليه بالإيمان، لا يقوى أن يرفع طرفه إلى الملأ من قومه، مما يجد في نفسه من الشعور بالذلة والمهانة؛ فهو ليس من علية القوم، يعيش في قصر في قلب البلد، لا وإنما يعيش في ضواحيه، وأطرافه وكما قال بعض المفسرين: أنه كان يعمل (إسكافاً) وهي مهنة بسيطة دنيئة. لكن الإيمان الذي وقر في قلبه حمله على أن يشعر بعزة الإيمان، واستعلائه، فيصيح بين ظهراني قومه قائلاً: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، دون سابق ممارسة، واعتياد. وإنما يتكلم الإنسان، ويمتلك الشجاعة الأدبية لما يقوم في قلبه من الإيمان العميق بالحق الذي يعتقده. فلماذا نتلجلج أحيانًا؟، ولماذا نتلكأ؟، ولماذا نحجم؟، إن هذا ناتج عن ضعف الإيمان، وبرودة المعاني التي نعتقدها، أما إذا حَيَت في قلوبنا هذه المعاني فإنها ستظهر على فلتات اللسان وحركة الأبدان للتعبير عنها.
الوقفة الخامسة: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ}: ها هو يناظرهم، ويجادلهم، ويشير إلى بعض نقاط الخلاف بين قومه وبين أولئك الرسل الكرام الذين أرسلوا إليهم، ثم يسوق الحجج العقلية، والفطرية، فيقول: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ?22? أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَ?نُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ ?23? إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ?24? إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [سورة يس: 22-25].
هذا مثال لمؤمن حمله إيمانه الحق الصادق، على أن يجهر بدعوته، لا يجمجم، ولا يهمهم، وإنما يأتي بها صريحة، واضحة، بينة، في منتديات الناس. إيمان فاعل، إيمان ناشط، إيمان واعٍ؛ يدرك تبعاتها، وآثارها، وما سوف تجر عليه من مسؤوليات، لكن ذلك لم يمنعه ولهذا قال ذلك الكلام بين ظهراني قومه، ونادى بملأ فيه: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} فقتله قومه شر قتله، حتى ذكر بعض التابعين الذين يروون عن أهل الكتاب أن قومه وطئوه بأقدامهم حتى قضوا عليه، وقيل أنه قطعوه إرباً.
ولكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد، يظل الإيمان الفاعل يحمل صاحبه على النصح للآخرين، قائماً، فبعد أن بُشِّر: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ? قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ?26? بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [سورة يس: 26-27]!!
سبحان الله!!، حتى بعد الموت، والفوز بالجنة، لا يزال في قلبه الشعور بالرغبة في العطاء، الرغبة في البذل، والنصح للآخرين. ولم يشأ أن يتشفى بهم، أو يجعل ذلك ذريعةً للنيل منهم، وإنما تمنى من سويداء قلبه أن يعلم قومه بعاقبته، لعل ذلك يحملهم على أن يقبلوا نصحه. قال قتادة: "لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشا"؛ لَمَّا عاين من كرامة الله. وقال ابن عباس: "نصح قومه في حياته بقوله: {يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، وبعد مماته في قوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}" رواه ابن أبي حاتم.
قال ابن كثير رحمه الله: "ومقصوده: أنهم لو اطلعوا على ما حصل من هذا الثواب، والجزاء، والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه)".
ثانياً: قصة الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه:
كان يتحاشى، ويحاذر أن يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب تحذير قريش. فلما سمعه، وأدرك صدقه، بعقله، وثاقب نظره، وفطرته السليمة، آمن. ولكن الرجل لم يكتم إيمانه في قبيلته (دوس)، ولم ينكفئ على نفسه دون أن يكون له أثر. وإنما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل له آية.
فلما أقبل على قومه جعل الله له نورًا بين عينيه. فسأل الله تعالى أن تكون في غير هذا الموضع، حتى لا يظنها قومه مُثله. فكانت في رأس سوطه. فلما جاءه أبوه قال: "إليك عني، ما أنا منك، ولا أنت مني"!!، وصنع ذلك مع زوجه، وقبيلته. فقالوا: "ماذا أصابك؟"، قال: "إني آمنت بالله، فإما أن تؤمنوا بما آمنت به، أو أفارقكم". فلم يزل بهم حتى وافقوه. وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، ومعه سبعون من قبيلته دوس!!، رجل واحد يأتي بسبعين رجلاً، منهم أبو هريرة!!
فلو لم يكن من فضائله، رضي الله عنه، إلا أن أسلم على يديه أبو هريرة، رضي الله عنه، لكفى. كفى أن أبا هريرة، أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسنة من حسنات هذا المؤمن الفاعل النشيط، الذي وقر الإيمان في قلبه، فظهر على أعماله وسلوكه.
وصف الظاهرة:
اسمحوا لي الآن بعد عرض هذين المثلين الإيجابيين، أن أعرض لوصف مظاهر السلبية التي صارت تتفشى في مجتمعات كثير من الشباب الصالحين هذه الأوقات؛ فقد كان الشباب في مطلع هذه الصحوة المباركة، فيهم من القوة، والبذل، والتضحية بالأوقات، والحماس للدعوة إلى الله عز وجل ما هو مضرب المثل. وكانوا قلة يواجهون باللوم، والتقريع، وإطلاق ألقاب السوء عليهم، فلم يزالوا صابرين، ناصحين، باذلين، حتى فتح الله على أيديهم، وكثر المهتدون بسببهم.
ثم بتنا نرى جموعاً من الشباب، يحبون الخير، ويشهدون مجالسه، ولكنهم أقل عطاءً، وأضعف إنتاجاً، وأثرهم في المجتمع ضعيف. أصيبوا بداء (السلبية).
وهذه الظاهرة تنشأ عبر خطوات؛ فتجد الشاب يعيش في مرحلة ما قبل الاستقامة حياةً ممتلئة، فعالة، مؤثرة، تضج بالعطاء والحيوية، والذهاب والإياب، والانشغال لكن في مجال الباطل والغفلة واللهو؛ رحلات متتابعة، سفريات، وزيارات، ومشاريع كثيرة جداً. ثم يلتزم الشاب، ويجد طعم الراحة الإيمانية، وتتساقط عنه همومه، وإشكالاته، ويحس بالخفة النفسية. وهذه مرحلة طبيعية، وفرح إيماني صحيح. لكن بعضهم يسيطر عليه شعور بالانسحاب من الحياة العامة، والعيش في جو مغلق محدود، لا يتناسب من حيث العطاء مع وضعه السابق، إذا به يعود منغلقاً على نفسه، مطأطأ الرأس، خافت الصوت، لا ينتج، ولا يبذل. ويصدق عليه المثل القائل: "جبَّار في الجاهلية خوار في الإسلام".
ثم تجد أن هذا الشاب الذي أصيب بهذا الداء داء (السلبية) يطمئن نفسه ببعض المسكنات فيقول: "ها أنذا أساهم مع الشباب في حضور بعض الأنشطة، وها أنذا أحضر مناسبات الخير، وإذا دعيت أجبت".
ويعتقد أنه بهذه المساهمات المحدودة البسيطة قد أدى ما عليه. يشعر بالاكتفاء والامتلاء. وهذا في الحقيقة داء.
ليس المقصود أن تكون رقما فقط،، كلا، إنك حينما اهتديت إلى الله عز وجل بات المطلوب منك أن تحمل غيرك، كما حملك غيرك، وأن تكون فاعلاً، مؤثراً، كما كنت قبل ذلك، لا أن تملأ المجالس، ويكون دورك فقط الدور الحضوري.
ثم لا يلبث صاحبنا أن تنشأ عنده اهتمامات جانبية تافهة، تكون هي شغله الشاغل. وقد يتعدى الأمر إلى خطر أكبر، فيقع في الفتور إذا طال عليه الأمد كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة الحديد: 16]، فيقسو قلبه، وتموت أحاسيسه وانفعالاته الإيمانية، ولا يستجيب لما كان يستجيب له من قبل. وربما أفضى به ذلك إلى الردة، والانتكاسة، كما نسمع بين الوقت والآخر: إن فلاناً أصابه شيء، وانتكس والعياذ بالله.
وربما ابتلي هذا الإنسان السلبي بمرض آخر خطير، وهو (حب النقد) و(توزيع التهم) و(الانشغال بتجريح الآخرين). فإنك، غالباً، لا تجد من يشتغل بالنقد، والتجريح، والوقيعة في الناس، ولاسيما الدعاة، والعلماء، إلا الفارغين؛ فالفارغون الذين ليس عندهم عمل، ولا دعوة، ولا طلب علم، ولا حسبة، شغلهم الشاغل أن يتكئ أحدهم على أريكته، ويشير بأصبعه السبابة، قائلاً: "هذا صح، وهذا خطأ!، وفلان أصاب، وفلان أخطأ!"، وربما لم يبلغ بعد أن يحسن تلاوة الفاتحة، أو يحفظ باباً من العلم.
السلبية في البيت:
ففي البيت، ليس له تميز، ولا أثر؛ لا يأمر بالمعروف، ولا ينهي عن المنكر. وربما قصر في الحقوق الواجبة عليه من البر والصلة. لا يميز أهله بينه وبين أخيه غير المستقيم، بل قد يفوقه بعض إخوانه في نفع أهله. وربما لا يقوم بتعليمهم ما يتعلم، ولا يجلب لهم الأشرطة، ولا الكتيبات، ولا يجلس معهم، ولا يحدثهم بأحاديث إيمانية، ولا يناصحهم ولا يسألهم عن مجريات أمورهم. فهذا لاشك أنه نوع من السلبية.
وليستذكر كل واحد الآن، ماذا يصنع في بيته؟، هل أنت شعلة مضيئة؟، هل أنت زهرة فواحة تنشر أريجها وعبقها في كل ركن من أركان البيت؟
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم، خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» [رواه الترمذي وصححه الألباني]، فلماذا نحرص على الخير خارج بيوتنا، ونهمل بيوتنا، وهي ألصق بنا، وأولى ببرنا، وعطائنا؟!، لا شك أن هذا يكشف خللاً في التربية، والتدين.
السلبية مع الزملاء:
في المدرسة، أو الكلية، تجد علاقة هذا الإنسان المصاب بداء السلبية مع زملائه علاقةً عادية في أحسن أحوالها، لا قدوة، ولا أخلاق، ولا تميز؛ فالمفترض في من يحمل بين جنبيه إيماناً دافقاً أن يكون بين زملائه الذين هم أصلاً مهيئون لطلب العلم داعية، ومذكراً، وأن يباشرهم، ويتعرف على أحوالهم، ويدعوهم إلى الله، ويربيهم، ويتبادل معهم الخبرات، والمعلومات. يعطي هذا شريطاً، ويهدي لهذا كتيباً، ويتفقد حال هذا، ويزور ذاك في بيته، إلى غير ذلك من صور التفاعل الإيجابي، لا أن يقعد ويحتل كرسياً في الفصل، دون أن يكون له أثر. وربما اجتاح الميدان غيره من دعاة السوء، واللهو، والعبث، فصاروا هم المقدمين، الذين لهم الكلمة النافذة الذين يوجهون مناشط الفصل، ومناشط المدرسة، وبرامج الكلية، وهو يتفرج، لا يحرك ساكناً، لا يقدم ولا يؤخر، كما قيل:
ويقضي الأمر حين تغيب تيم **** ولا يستأذنون وهم شهود
سائل نفسك: حين تكون عضواً في جمعية النشاط المدرسي أو برامج النشاط التي تقام في الكليات والجامعات، هل أنت تقدم الأفكار والاقتراحات والملاحظات والمبادرات؟، فإن هذا لون من ألوان التفاعل و الإيجابية، أم تكتفي بالحضور الصامت؟
السلبية في المسجد والحي:
تجد هذا الشاب الموصوف بالسلبية، لا ثقل له بين جماعة مسجده، ولا اعتبار. نكرة من النكرات، لا يعرفه أحد!!؛ لأنه لا يبذل نفسه، ولا يسعى في حاجة المسجد، ولا يساعد جماعته، ولا يعظ، ولا ينصح، بل يأتي ليصلي، ثم ينصرف سريعاً كأنه عابر سبيل. بل إنك تجد أحيانًا بعض العامة يبذل في هذا المجال بذلاً عظيما؛ إذا جاء شهر رمضان، رأيت طائفة من الناس يشتغل في تهيئة المسجد لصلاة التراويح، والعناية بالصوت، والإضاءة، وغير ذلك، وصاحبنا لا ناقة له، ولا جمل.
سائل نفسك: حين تكون منتميًا لحلقة تحفيظ القرآن في المسجد، هل أنت على صلة بزملائك، تناصحهم، وترشدهم، وتثبتهم، وتحضهم على المواصلة في الحفظ؟
وسائل نفسك: ما هو دورك حيال قضايا المجتمع؟، أنت عضو في هذا المجتمع، عضو في هذا البلد، هل تشعر بالاهتمامات على المستوى العام؟، وهل تحاول أن تصلح إذا سمعت بمنكر، فتسعى في إزالته بالطرق المناسبة؟، وإذا سمعت بمعروف شاركت فيه وأيدت؟، أم أنك تكتفي فقط بتلقي الأخبار وتحليلها وينتهي دورك؟
أسباب السلبية:
لماذا يقع بعض الشباب في السلبية؟ ما هو السبب الذي جرهم إلى ذلك مع أن المنطلق كان صحيحا؟، هذا يرجع في الحقيقة إلى عدة أسباب منها:
أولاً: عدم الفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية:
كأن يتصور أن الدخول في عقد الإيمان يعني أن يكون حاله حال دراويش الصوفية الذين يقبعون في الزوايا، والتكايا. ولا ريب أن هذا فهم خاطئ أساساً؛ فالعقيدة الإسلامية عقيدة تقوم على الإيمان الصحيح بالله عز وجل، وما يقتضي ذلك من الدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه. قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر: 3]، وتواصوا: صيغة مفاعلة، أي أوصى بعضهم بعضاً. فعلى كل واحد أن يصحح معتقده، ويفهم دينه على الوجه الصحيح.
ثانياً: اعتقاد الإنسان أن من شروط الإيجابية حصول الكمال:
وهذا عذر مشهور يعلق عليه كثير من الناس تقصيرهم، وتقاعسهم. يقول أحدهم: ومن أنا حتى أفعل كذا، ويتواضع، ويتمسكن، ويقول ما عندي من العلم، وما عندي من الإيمان، وما عندي من التقوى حتى أفعل كذا وكذا!!
هذا ليس تواضعاً شرعياً، وإنما هو تواضع بارد مذموم. نعم، لا تتكلم بما لا تعلم، بل تكلم بما تعلم. ولو تأملت لوجدت أن ما تعرف خيراً كثيراً تملك أن تدعو إليه. وفي نفس الوقت اسعَ لتكميل علمك، وعملك، وكلما زاد علمك وعملك زادت مسئوليتك، وفضلك.
ثالثاً: دعوى أن المبادرة، مدعاة للرياء:
هذه حيلة شيطانية، تحول بين الإنسان وبين العمل الصالح. إذا صلحت نيتك الأولى لم يضرك ما قد يقع من ثناء الناس، أو حصول مغنم، بادر في هذا المشروع الطيب، وكن رأساً فيه، فإذا رأيت من هو أولى منك، فكن عوناً له. ولكن لا يجوز أن ينظر بعضنا إلى بعض، ونقول: (من يعلق الجرس)؟، كل منا مطالبٌ أن يعمل قدر وسعه، فلا يتعلل الإنسان بهذه العلل المقعدة.
رابعاً: التربية الرخوة:
قد يتربى بعض الشباب على منهج تطغى فيه الوسائل على الغايات، فلا يتربى على منهج جاد، بل يُنشَّأ على برامج خفيفة، بسيطة، ليس فيها حزم، ولا صبر، ولا جلد، ولا ثني ركب. لابد من الصبر، والمصابرة في تحصيل العلم، والتربية، والدعوة.
كثير من الشباب يدخل في سلك الصالحين بواسطة ما يسمى (الأناشيد الإسلامية) والبرامج المشوقة والجذابة، وأنا لا أعترض على التدرج بشرط أن يكون هذا الأسلوب أسلوباً ملتزماً بالضوابط الشرعية ولمرحلة مؤقتة. ولا يجوز بحال أن يُستمَر عليه، وأن يكبر الشاب وهو لا يعيش إلا على صدح الأناشيد، والمسرحيات، والرياضة، والسباحة، والرحلات، ونحو ذلك، ويستثقل حضور مجالس العلم، وحفظ كتاب الله. إن هذا المنهج الرخو يخرِّج أفراداً لا يقوون بعد ذلك على المواصلة، ويكونون سلبيين، ولا يملكون رؤيةً واضحة؛ فيجب أن نفرق بين الوسائل و الغايات. هذا في الحقيقة منافٍ للمنهج النبوي في التربية. المنهج النبوي منهج جاد، متين، قوي، وفي نفس الوقت ميسر، رفيق.
الختام
لابد أن نفتش في أنفسنا لعل بعض الشباب لازال يعيش على ذكريات الطفولة!!، قد كبرت يا عبد الله!!
قد رشحوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
هذه كلمات، أرجوا أن تنبه أذهانكم إلى هذه القضية الخطيرة وأن يراجع كل امرئ نفسه ويرى حظه من القيام بأمر الإيمان. فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك ففي العمر متسع، فارجع، وصحح المسار من جديد.
هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى للجميع التوفيق، والهدى، والسداد.
وصلى الله وسلم وبارك، على عبده، ونبيه محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.