عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن باز ولد في ذي الحجة سنة 1330هـ بمدينة الرياض،كان بصيرا ثم أصابه مرض في عينيه عام 1346هـ وضعف بصره ثم فقده عام 1350هـ،حفظ القرآن الكريم قبل سن البلوغ ثم جد في طلب العلم على العلماء في الرياض ولما برز في العلوم الشرعية واللغة عين في القضاء عام 1350هـ ،لازم البحث والتدريس ليل نهار ولم تشغله المناصب عن ذلك مما جعله يزداد بصيرة ورسوخا في كثير من العلوم،توفي رحمه الله قبيل فجر الخميس 27/1/1420هـ.
في مثل هذا اليوم من عام 1420هـ تلقى الناس في مشارق الأرض ومغاربها خبراً قرح أجفانهم وأضج مضاجعهم وأصبح الكثير منهم بين مصدق للخبر ومكذبه ، كيف لا وقد نشأت أجيال كثيرة كان ابن باز فيهم ملء السمع والبصر ، وأكاد أجزم أن كل من وقع عليه الخبر ابتداءً كذبه تلقائياً لعجز عقله عن استيعابه هذا الخطب المهول !!!
كانت آخر مرة رأيت فيها الشيخ ـ حياً ـ بتاريخ : 23ـ12ـ1419هـ وكنت مررت عليه معزياً بوفاة العلامة ابن غصون رحمه الله ، فدخلت عليه بعد صلاة المغرب بجامع الأميرة سارة والشيخ الإمام يسبح بعد الصلاة فسلمت عليه ورأيت الحزن في وجهه يكاد يقتله وكانت الرعشة في يديه مثار تعجبي فلم أرَ الشيخ قبلها بهذه الطريقة من الضعف والمرض ، فعزيته ولم ينس الشيخ رحمه الله عادته مع المسلمين عليه على كثرتهم فشد يدي وقال : من ؟ فقلت : فلان !!! عظم الله أجرك في الشيخ صالح . فاسترجع الشيخ استرجاعاً حزيناً وأطرق برأسه ومضيت وتركته رحمه الله ،،،
كنت أصلي الظهر بالمسجد في تاريخ : 27ـ1ـ1420هـ وجاءني بعد الصلاة أحد الجيران وقال لي : سمعت شي عن الشيخ ابن باز ؟؟ قلت : لا !!! قال : نسيبي محمل عفشه بسيارته ويقول ابروح اصلي على الشيخ بمكة !!! تلقائياً ... لا أدري مالذي جعلني أنكر هذا الشيء وقلت له مباشرة : لا ياخوي الشيخ طيب ونسيبك ماعنده خبر !!!
فجأة دخل أحد الزملاء المسجد وهو مشهور لدي بحمل الأخبار السيئة ، فلما رأيت وجهه علمت أن الخبر صحيح وأن الشيخ انتقل لجوار ربه سبحانه ، مباشرة قلت له : صحيح ؟؟ قال : نعم صحيح توني الحين جاي من بيت الشيخ بالرياض ورأيت أفواج الناس تتأكد من صحة الخبر وتأكدت من الخبر !!!
أقسم بالله العظيم لم تحملني قدماي !!! أخذت ركبتاي تصفق إحداهما في الأخرى وتذكرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أكد له أبو بكر رضي الله عنه خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تحمله قدماه وسقط على ركبتيه !!!
أخرجت الجوال واتصلت بالوالدة ـ شفاها الله ـ وعندما ردت علي انعقد لساني عن الكلام فلم أدر ماذا أقول ؟؟!!
هل أقول : مات ابن باز ؟؟ أم أقول : أحسن الله عزاك في ابن باز ؟؟ أم اقول : عزيني في ابن باز ؟؟
أنطلقت في بكاء ونشييييج عالٍ وأخذت الوالدة تناديني : يبه وشفييييييك ؟؟ تكلم وش بلااااك ؟؟
تماسكت قليلاً بعد أن سكنت موجة البكاء وقلت : ابن باز مات !!!
أصبحت مع والدتي كأننا حجران في رقعة شطرنج فإذ بها تحل محلي في البكاء والنشيج لكن مع دعاااء صادق من قلب مكلوووم بهذه المصيبة العظيمة ،،،
أقفلت السماعة وخرجت للبيت ودخلت وإذ بالبيت كله يعزي بعضه بعضاً وترى الحزن والبكاء على وجه الصغير والكبير ، وتذكرت والدي رحمه الله وهو يبكي ويقول : والله العظيم اني كلما شفت صورة هالشيخ وهو حي اني تخنقني العبرة وشلون هالحين يوم مااات ؟؟!!
أخذت شنطة صغيرة بها بعض الأغراض وإحرام واتصلت ببعض الزملاء وتواعدنا بعد صلاة العصر لنسافر إلى مكة للصلاة على الشيخ رحمه الله ،،،
قبل الخروج من البيت قابلني خالي ـ رحمه الله ـ وكان قبل تقاعده يعمل مع الشيخ في الإفتاء ، وكان يحبني حباً شديداً وقال : وين ان شاءالله رايح ؟؟ قلت : ابروح اصلي على الشيخ ، قال : من هو ؟؟ قلت : الشيخ ابن باز ماعندك خبر ياخالي ؟؟؟!!! لأول مرة أرى خالي بهذا المنظر البائس من البكاء الشديد !! استقبل القبلة وأخذ يدعو ويدعو ويدعو وصوته ونشيجه أخرج من بالبيت وهيجهم على البكاء مرة أخرى !!!
صلينا العصر وانطلقنا إلى مكة ، وإذ بالطريق مليء بالسيارات كأننا في موسم حج أو عمرة ، حتى المحطات تفاجأت بهذه الأعداد الضخمة من السيارات ونفد البنزين من أكثرها حتى كنا نضطر للتوقف عند أكثر من محطة للتزود بالوقود ، وكذلك المطاعم نفد مافيها من الطعام وبدت الدهشة منعقدة على وجوه العمالة التي يعملون فيها !!!
وصلنا لمكة في الليل ودخلنا الحرم لأداء العمرة وأكثرنا جعل عمرته تلك عن الشيخ رحمه الله ، منظر عجيييييييب من كثرة المعتمرين مع توقف موسم العمرة للوافدين في تلك الفترة ، الصحن مليء بالمعتمرين والمسعى الأرضي والعلوي كذلك ، إلا أنك ترى الجميع يأدي عمرته بكل سكينة ورفق كما أداها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم نشهد مجموعات ضخمة تدكدك أرض الحرم بأقدامها الشديدة وتزلزل جدرانه بهتافات جاهلية !! بل كل المعتمرين من أهل السنة ممن قدم للصلاة على الشيخ الإمام رحمه الله .
أتذكر رأيت الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وقد تزاحم حوله الناس يسلمون عليه وكأنهم يقولون : البركة فيك ياشيخ !
رأيت الشيخ ابن جبرين كذلك يعتمر في المسعى ورأيت غيرهم لكن الذاكرة لا تسعفني بهم الآن !!!
أصبحنا وخرجنا لصلاة الجمعة بالحرم حيث سيصلى على سماحته بعدها مباشرة ، ودخلنا الحرم تقريباً في العاشرة والنصف وصلينا في الدور الثاني وخطب بنا الشيخ ابن سبيل ، وكانت الخطبة عن الشيخ رحمه الله ومناقبه ، واعتادت أسماعنا على سماع صوت البكاء من الناس ، إلا أن الحرم ضج كله بالبكاء عندما قال المؤذن بعد الصلاة : الصلاة على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمكم الله ، والله كأن الحرم يهتز من شدة بكاء الناس .
انتهينا من الصلاة وسارعت للإطلال على صحن الحرم فرأيت أمراً عجباً !!!!
رأيت الصحن يموج كما يموج البحر الهادر ورأيت الناس كل الناس من حول الصحن تشاهد هذا المنظر المهيب !
فهناك أفواج النساء المتسربلات بالسواد وكأنهن جبال سوداء شامخة قد حجبن شعاع الشمس ، وهناك الناس من جميع الطوابق يرقبون المنظر بدهشة وبكاء وكل منهم يقول : لااااااا إله إلا الله !!!
وجنازة الشيخ تتجه إلى مخرج الحرم وفجأة إذ بها تدور وتدور وتدور من شدة الزحام وتتوقف في مكانها مرة تلو أخرى والناس تصيح كل من مكانه ، وخشي الناس على جنازة الشيخ رحمه الله من السقوط لكن الله سلم وحفظها حتى خرجت بسلام من بوابة الحرم إلى سيارة الإسعاف .
مشهد عظيم يذكرنا جميعا بمقولة الإمام أحمد : بيننا وبينهم يوم الجنائز فصلى عليه مليون مسلم ولم يصل على ابن ابي دؤاد إلى أربعة نفر فحسب !!!
هناك حقيقة مهمة وهي أن الله سبحانه وتعالى أراد بهذا الإمام خيراً بقبضه قبل مجيء زمن الفتن ، وأراد بنا سوءاً بقبض هذه الثلة من العلماء الربانيين ويأتي في مقدمتهم إمامنا ابن باز رحمه الله رحمة واسعة !!!
إحدى الصالحات رأت الشيخ رحمه الله في منامها بعد وفاته بفترة قريبة فقالت لها : أين ذهبت ياشيخ وتركتنا ؟؟ فاشار بيده إلى جهة وقال : فررت من الفتن !!!