إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذه السلسلة والتي أسميناها ما صح وما لم يصح، وتشتمل من الأحاديث الصحيحة، وكذلك تشتمل على الأحاديث الضعيفة والمنكرة والتي يكثر انتشارها بين العوام، والتي تدور على ألسنة الناس، وينسبونها إلى النبي e، ولم يُتيقن ثبوتها عنه عليه الصلاة والسلام، وقد أوردنا ما صح ويغني عن الضعيف منها، فهذه الرسالة ما صح وما لم يصح في المحرم وعاشوراء، وكان من قبلها الأحاديث التي صحت وما لم تصح في رمضان، والأحاديث التي صحت وما لم تصح في الحج، لنضعها بين يدي القارئ الكريم ليكون على علم بها، وسنواصل بإذن الله تعالى في كل مناسبة نبيّن ما صح وما لم يصح فيها نصحاً لعامة المسلمين، وعملا بوصية النبي r "الدين النصيحة"، ومن باب التعاون على البر والتقوى، وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه سميع قريب.
فبحثنا هذا يتعلقُ بفضل الصوم في شهر الله الحرام وصيام عاشوراء، أردنا بيانها لإخواننا وأحبتنا في الله تعالى، راجين ذخرها عند الله جلَّ وعلا، وسائلين مولانا الكريم أنْ ينفع بها الجميع في الدارين.
فنقول وبالله التوفيق:
جعل الله سبحانه وتعالى الأشهر عنده اثنا عشر شهرا وسمى منها أربعة حرم فقال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. التوبة:36
وقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: "السنةُ اثنا عشر شهرًا منها أربعةٌ حرم ، ثلاثٌ متواليات: ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجبُ مضر الذي بين جمادى وشعبان".
وسمي هذا الشهر الذي نحن بصدده في هذا البحث بالشهر الحرام .
- وسُمي هذا الشهر محرمًا لتحريم القتال فيه، وقيل لتحريم الجنة فيه على إبليس.
ما صح في فضل صيام شهر الله المحرم
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ. وَأَفْضَلُ الصََّلاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صََلاةُ اللَّيْلِ".صحيح مسلم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع: فمما يسن صيامه شهر المحرم، وهو الذي يلي شهر ذي الحجة، وهو الذي جعله الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول شهور السنة، وصومه أفضل الصيام بعد رمضان.
ما لم يصح في صيام المحرم
روي عن أنس t، عن النبي r أنه قال: "من صام تسعة أيام من أول المحرم بنى الله له قبة في الهواء ميلا في ميل لها أربعة أبواب".
v موضوع
قال ابن الجوزي في الموضوعات: هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حبان: موسى الطويل يروي عن أنس أشياء موضوعة لا يحل كتبها إلا على التعجب.
وقال الشوكاني: رواه أبو نعيم عن أنس مرفوعاً، وهو موضوع، آفته موسى الطويل . وفي تذكرة الموضوعات (1/820) موضوع .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي r قال: "من صام آخر يوم من ذي الحجة، وأول يوم من المحرم، فقد ختم السنة الماضية، وافتتح السنة المستقبلة بصوم، جعله الله كفارة خمسين سنة".
v موضوع
في سنده الهروي، ووهب. قال الشوكاني في الفوائد المجموعة (1/96): رواه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا وفيه كذابان.
وقال ابن الجوزي في الموضوعات: الهروي هو الجويبارى، ووهب، كلاهما كذاب وضاع .
v ويغني عنه :
الحديث الصحيح التي مر آنفاً بفضل صيامه.
ما صح في فضل صيام عاشوراء
* كان صومُ يوم عاشوراء من شهر الله المحرم واجبًا في الابتداء قبل أنْ يُفْرض رمضان، فلما فُرض رمضان، فمَنْ شاء صام عاشوراء ومَنْ شاء ترك، ثبت ذلك من حديث كلٍ مِن: عائشة وابن عمر ومعاوية في الصحيحين، وابن مسعود وجابر بن سمرة عند مسلم وقيس بن سعد بن عبادة، عند النسائي.
· في هذا الشهر يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر منه، يدلُ عليه حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما ( الحديث الثالث) وهذا هو الصواب.
قال الزين بن المنير رحمة الله تعالى عليه: الأكثر على أنَّ عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية.
وقال القرطبي عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم الفعل واليوم مضاف إليها فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة
وذكر الإمام أبو بكر البيهقي رحمه الله: أن الأصح أن عاشوراء لم يكن صيامه واجباً لأن النبي e لما أمرهم بالإمساك عن الأكل فيه لم يأمرهم بالقضاء ولو كان واجباً لأمرهم بالقضاء.
وحكى الإمام أبو زكريا النووي رحمه الله الاتفاق على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنة ليس بواجب .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله :
} موعدكم يوم الزينة { قال: يوم عاشوراء. خرجه ابن شاهين .
وخرج أيضاً من طريق أبي أسامة عبدالله بن أسامة الكلبي قال ثنا عون بن سلاّم ثنا قيس عن الأعمش عن بعض أصحابه في قوله تعالى }موعدكم يوم الزينة { قال : يوم عاشوراء.
وقد أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس زيادة في سبب صيام اليهود له، وحاصلها أن السفينة استوت على الجودي فيه، فصامه نوح وموسى شكرا. فتح الباري4/291).
وفي هذا الحديث دليل على أن التوقيت كان في الأمم السابقة بالأهلة، وليس بالشهور الإفرنجية. الشرح الممتع: (6/471).
وهذا الحديث أفاد تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام عاشوراء، وقد كان أول قدومه المدينة. ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية. نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان: (1/499) .
والأحاديث التي صحت في فضل صوم عاشوراء:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ r يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إَِلا هَذَا الْيَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ، يَعْنِي: شَهْرَ رَمَضَانَ". صحيح البخاري، (2006).
ومعنى "يتحرى": أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.فتح الباري: (4/292).
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ t، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ". صحيح مسلم رقم (1162).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ r بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ: يَوْمُ الْعَاشِرِ". صحيح سنن الترمذي للألباني رقم (755).
وجاء عن عمر بن صهبان، عن زيد بن أسلم، عن عياض بن عبدالله، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله e: "من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامه وسنة خلفه، ومن صام عاشوراء غفر له سنة".صحيح الترغيب رقم (1013) و (1021).
وفي البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود ، والنسائي، وابن ماجة من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "قدم النبي e المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله U بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسىu، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه e وأمر بصيامه".
قال ابن ناصر الدمشقي في اللفظ المكرم بفضل عاشوراء المحرم:
هذا الحديث فيه فوائد سَنيّة وأحكام سُنيّة، منها:
أن قدوم النبي المشار إليه كان من سفر الهجرة من مكة الشريفة إلى المدينة المشرفة.
وظاهر الحديث قبول خبر اليهود مع أنه غير مقبول ، فيحتمل والله أعلم أنه أوحي إليه بصدقهم فيما قالوه من نجاة بني إسرائيل من عدوهم في يوم عاشوراء ، وصيام موسى عليه الصلاة والسلام ذلك اليوم ، أو أن النبي e أخبره بذلك من أسلم من علماء اليهود كابن سلام وأمثاله والله تعالى أعلم .
وقول ابن عباس رضي الله عنهما "فصامه وأمر بصيامه" دليل للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه على أن صيام عاشوراء كان واجباً قبل فريضة صوم رمضان.