الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:مَكمنُ عِزِّ الداعيةوجوالبُ مَحبَّتِهِ
فإنَّ مِنْ أعظمِ أسباب حِفظ مكانةِ الداعية إلى الله، وتعظيمِ شرفِه وعِزِّه أن يعمل على تكوين دخلٍ ماليٍّ لنفسه من مصدر رِزقٍ مُناسبٍ، ويدفع به حاجتَه، ويقنع بما أتاه اللهُ من فضله، ويحقِّق من الكفاف عن السؤال فيما يحتاجه في مطعمه وملبسه ومسكنِه ونحو ذلك، لا يسأل إلاَّ الله تعالى، ويرغب إليه فيه، ويستغني به عن الناس، فإذا ضُمَّ المالُ إلى العِلم حَازَ الداعيةُ على الكمال والعِفَّة والقناعة، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ»(١- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة: (2426)، والترمذي في «سننه» كتاب الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه: (2348)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الزهد، باب القناعة: (4138)، وأحمد في «مسنده»: (6572)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.)، وقد بيَّن جبريلُ عليه السلام للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم سبيلَ عزِّ المسلم وشرفِه في حديث سهلٍ بنِ سعدٍ رضي الله عنه، قال: جاء جبريلُ عليه السلام إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقال: «يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُجْزِيٌ بِهِ، وَاحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»(٢- أخرجه الحاكم في «المستدرك»: (7921)، والطبراني في «الأوسط»: (4/306)، والبيهقي في «شعب الإيمان»: (10541)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. والحديث حسَّنه المنذري في «الترغيب والترهيب»: (1/243)، والهيثمي في «مجمع الزوائد»: (10/374)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: (831))؛ ذلك لأنَّ مَن زهد فيما هو عند الناس أحبُّوه ومالوا إليه، فاقتضى شرف الداعية أن لا يكون سائلاً للمال بلسانه إلاَّ لضرورة أو مستشرفًا إليه بقلبه؛ لأنَّ الطبائع جُبِلَتْ على استثقال من أنزل بالمخلوقين حاجاته وطمع فيما في أيديهم، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم رجلٌ، فقال: يا رسول الله، دُلَّنِي على عملٍ إذا أنا عملته أحبَّني اللهُ وأحبَّني الناسُ، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ»(٣- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب الزهد، باب الزهد في الدنيا: (4102)، والحاكم في «المستدرك»: (7873)، والبيهقي في «شعب الإيمان»: (10523)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. والحديث حسنه النووي في «الأذكار»: (503)، وابن رجب في «جامع العلوم والحكم»: (1/286)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: (944))، فإنَّ الاستغناءَ فيما في أيدي الناس سببُ محبَّتهم، والسعيَ فيما يُكسِبُ محبَّتهم مطلوبٌ شرعًا، ويدلُّ عليه قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ»(٤- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون: (194)، وأبو داود في «سننه» كتاب الأدب، باب في إفشاء السلام: (5193)، والترمذي في «سننه» كتاب الاستئذان، باب ما جاء في إفشاء السلام: (2688)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الأدب، باب إفشاء السلام: (3692)، وأحمد في «مسنده»: (9821)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، والحديثُ أرشد إلى إفشاء السلام، كما أرشدَ إلى التهادي في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «تَهَادُوا تَحَابُّوا»(٥- أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»: (1/208)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (12168)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث جوّده إسناده العراقي في «تخريج الإحياء»: (2/41)، وحسنه ابن حجر في «التلخيص الحبير»: (3/155)، ، والألباني في «الإرواء»: (1601))، وإنهما من جوالب المحبَّة التي تعزِّز العلاقةَ الإيمانيةَ، وتقوِّي أواصرَ التعاوُن الأخوِيِّ المبنيِّ على البرِّ والتقوى.
فالشَّرَهُ في جَمْعِ المالِ، والسؤالُ فيما في أيدي الناس يُفضي إلى الحَطِّ من شأن الداعية، وتقليلِ قيمتِه، واستثقالِ الناس له، والإعراضُ عن جمع المال بالاشتغال بالعِلم عن الكسب يُؤدِّي إلى اضطراب عيشه، واختلالِ مُهمَّتِه الدعوية، نتيجةَ إرهاقِ الفاقةِ له، الأمرُ الذي يدفعه الفقر إلى المداهنة من أجل استقرار حاله، قال بعض السلف: «إنه من أغرق في الحديث فليُعِدَّ للفقر جِلبابًا، فليأخذ أحدكم من الحديث بقدر الطاقة، وليحترف حَذرًا من الفاقةٍ»(٦- أخرجه الخطيب البغدادي في «الجامع لأخلاق الراوي»: (1/99))، لذلك ينبغي على الداعية التوسُّطُ والاعتدالُ تجاهَ المال بين الانهماك عليه وبين تركه بالكلية، وضِمن هذا المنظور المقاصدي المعتدل يقول ابن الجوزي -رحمه الله- في «منفعة المال» ما نصّه:
«ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضُمَّ إلى العلم حِيزَ الكمال، وإن جُمهور العلماء شَغَلَهُمُ العلمُ عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لابُدَّ منه، وقلَّ الصبرُ فدخلوا مداخلَ شَانَتْهُم وإن تأوَّلوا فيها إلاَّ أَنَّ غَيْرَها كان أحسن لهم، …هؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقًا من التأويل -فإنهم فَقَدُوا من قلوبهم وكمال دِينهم أكثرَ ممَّا نالوا من الدنيا، ولقد رأينا جماعةً من المتصوِّفة والعلماء يَغْشُونَ الوُلاةَ لأجل نَيْلِ ما في أيديهم، فمنهم مَن يُداهنُ ويُرائي، ومنهم مَن يمدح بما لا يجوز، ومنهم مَن يسكت عن منكراتٍ، إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفَقْرُ، فعَلِمْنَا أنَّ كمال العِزِّ وبُعدَ الرِّياء إنما يكون في البُعد عن العمال الظلمة، ولم نر من صَحَّ له هذا إلاَّ في أحد الرجلين:
- إِمَّا مَن كان له مالٌ كسعيدٍ بنِ المسيِّب كان يَتَّجِرُ في الزيت وغيرِه، وسفيانَ الثوريِّ كانت له بضائع، وابنِ المبارك.
- وإمَّا مَن كان شديدَ الصبر قنوعًا بما رُزِقَ وإن لم يكفه كبِشْرٍ الحافي، وأحمدَ بنِ حنبلٍ.
ومتى لم يجد الإنسانُ كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلُّبه في المحن والآفات، وربما تلف دينُه.
فعليك يا طالبَ العلم بالاجتهاد في جمع المال للغِنى عن الناس، فإنه يجمع لك دينَك، فما رأينا في الأغلب منافقًا في التديُّن والتزهُّد والتخشُّع ولا آفة طرأت على عالمٍ إلاَّ بحُبِّ الدنيا، وغالبُ ذلك الفقر، فإن كان مَن له ما يكفيه ثمَّ يطلب بتلك المخالطة الزيادة فذلك معدود من أهل الشَّرَهِ، خارج عن خير العلماء، نعوذ بالله من تلك الأحوال»(٧- «صيد الخاطر» لابن الجوزي: (154-155)).
قال سفيان الثوري -رحمه الله-: «من كان في يديه من هذه شيء [أي: الدنانير] فليصلحه، فإنه زمان مَن احتاج كان أوّل ما يبذل دينه»(٨- «حلية الأولياء» لأبي نعيم: (6/381))، وقال -رحمه الله- أيضًا: «يا معشر القُرَّاء ارفعوا رؤوسَكم فقد وضح الطريق، واعملوا ولا تكونوا عالةً على الناس»(٩- المصدر نفسه: (6/382)).
وهكذا فعلى الداعية إلى الله، إن لم يكن له مصدر رزق يغطِّي حاجتَه ونفقتَه منه، اكتسب من الحلال بقدر كفايته، وترك الغلوَّ فيه، فقد كان «سفيان الثوري إذا أتاه الرجل يطلب العلمَ سأله: هل لك وجه معيشة؟ فإن أخبره أنه في كفايةٍ أَمَرَهُ بطلب العلم، وإن لم يكن في كفايةٍ أَمَرَهُ بطلب المعاش»(١٠- أخرجه الخطيب البغدادي في «الجامع لأخلاق الراوي»: (1/98)). قلت: إنما ذلك تقصّدًا ليجمع همَّه، ويُفرغ قلبَه، ويصون عِرضَه عن الخلق، ويُؤدِّي مُهمَّتَه التربويةَ ورسالتَه الدعويةَ مع كمال العزِّ، مُستغنيًا عمَّا في أيدي الناس، بعيدًا عن المداهنة والمراءاة، فإنَّ هذا أسلم له للعاقبة وأنفع له للدنيا والآخرة، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(١١- أخرجه الترمذي في «سننه» كتاب صفة القيامة: (2465)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (949)).
لكن «متى سَمَتْ هِمَّتُهُ إلى فضول المال وقع المحذور من التشتُّت؛ لأنَّ التشتُّت في الأول للعدم، وهذا التشتُّتُ يكون للحرص على الفضول، فيذهب العُمُر على البارد:
قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ»(١٣- سبق تخريجه، هامش رقم (9)).وَمَنْ يُنْفِقِ الأَيَّامَ فِي حِفْظِ مَالِهِ مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الفَقْرُ»(١٢- «صيد الخاطر» لابن الجوزي: (267))
نسأل اللهَ تعالى أن يرزقنا الهُدى والتُّقى والعفافَ والكفاف والغِنَى، وأن يجعل الآخرة هَمَّنَا، ويُقَنِّعَنَا بما آتانا، إنه على كلِّ شيء قدير وبالإجابة جديرٌ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 ربيع الأول 1429ﻫ
الموافق ﻟ:22/03/2008م