حديث: (احفظ الله يحفظك)
دراســــة عقـــــدية
د. محمد بن عبد العزيز بن أحمد العلي
أستاذ مساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - بكلية أصول الدين-الرياض
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
ملخص البحث
هذا البحث هو شرح لحديث رسول الله e في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما حينما قال له وهو رديفه: ( يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف )، وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً ) .
وهذا الحديث، وإن سبق شرحه قديماً وحديثاً، إلا أني لم أقف على من درسه دراسة عقدية تبرز ما فيه من مسائل كثيرة تتعلق بأساس الدين وأصله، إذ فيه من المسائل المتعلقة بألوهية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته ونحو ذلك مما يؤكد الحاجة الضرورية لدراسته .
ولهذا كتبت فيه هذا البحث الذي بدأته بمقدمة ذكرت فيها أهميته وسبب اختياره، ثم كتبت تمهيداً ضمنته ذكر الحديث برواياته، ثم شرحه إجمالاً، مع بيان مكانته وما قاله العلماء فيه، ثم قسمت البحث إلى اثني عشر مبحثاً، جعلت كل فقرة من فقراته في مبحث خاص، ثم ختمته بخاتمة ذكرت فيها أهم نتائجه، ثم وضعت فهرساً لأهم المصادر والمراجع التي أفدت منها .
وإني لأنبه إلى أن هذا الحديث لا يزال بحاجة إلى عناية خاصة بالتأليف لما اشتمل عليه من مسائل عظيمة .
أسأل الله إخلاص النية، وصلاح العمل وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله صحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد.
فإن رسول الله e أعطي (فواتح الكلام وجوامعه وخواتمه) ([1]) ، ويتضح ذلك لكل من تتبع سنته واقتفى أثره، وكان e حريصاً كل الحرص على نجاة أمته، بتعليمها وتربيتها التربية النبوية العقدية القويمة، يفعل ذلك في كل أوقاته، حتى أثناء تنقــله من مكان إلى آخر، كما في أحاديث، منها وصيته e لابن عباس رضـي الله عنهما عندما كان رديفه على الدابة، وهو موضوع هذا البحث، وهــذا الحديـــــث العظيــــــم وإن كان موجـهاً من رسـول الله e إلى ابن عباس رضي الله عنهما إلا أنه وصية عظيمة القدر للأمة جمعاء، وإرشاد نبوي لكل من أراد النجاة في الدنيا والآخرة.
هذا وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث، قديماً وحديثاً، شرحاً وتفصيلاً، فتتبعت ما كتب فيه فرأيت أنه بحاجة إلى دراسة عقدية تظهر ما فيه من مسائل عظيمة تتعلق بأشرف العلوم وأجلها قدراً، وأوجبها مطلباً، وهو علم التوحيد، لأنه مفتاح الطريق إلى الله e وأســاس الشرائـع قال تعالى : ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [ ([2]).
فإن كثيراً مما كتب في شرح هذا الحديث اعتنى ببسط مسائله الوعظية، وفي هذا خير عظيم، والأمة بحاجة ماسة إلى من يذكرها ويعظها بما جاء في كتاب الله تعالى وثبت في سنة رسوله e، إلا أن التركيز على مسائله العقدية من أهم المهمات.
وهذا لا يعني أن من كتب في شرحه أغفل مسائل العقيدة لكنه أجمل في ذكرها مقارنة مع ما في الحديث من مسائل كبيرة.
ومن أفضـل ما قرأته المملكة العربية الســـعودية ما كتبــه أســــلافـــنا شــرح ابن دقيـق العيـد (ت 702هـ) في كتابه (شرح الأربعين حديثاً النووية)، وشرح ابن رجب (ت 795 هـ) في كتابــه (جامع العلوم والحكم) و (نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي e لابن عباس) وغيرهما، وبخاصة ممن كتب في شرح الأربعين النووية.
إلا أنه كما ذكرت آنفاً رأيت أن الحديث بحاجة إلى دراسة عقدية تبرز ما فيه من مسائل أُجمل في ذكرها، وبخاصة أنه قد تناوله بالشرح ممن هو ليس على عقيدة السلف، فظهرت آثار ذلك في شرحه.
وقد بدأت البحث بمقدمة ذكرت فيها أهمية وسبب الكتابة في هذا الموضوع، ثم تمهيداً ذكرت فيه الحديث ومكانته وشرحه إجمالاً.
بعد ذلك قسمت البحث إلى اثني عشر مبحثاً، كل فقرة في الحديث جعلتها في مبحث مستقل.
ثم ختمت هذه الدراسة بخاتمة كتبت فيها أهم ما توصلت إليه إجمالاً.
أسأل الله إخلاص النية وصلاح العمل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد :
متن الحديث:
عن أبي العباس عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما – قال: كنت خلفَ النبي e يوماً فقال : (يا غلامُ إني أُعَلِّمُك كلمات: احفظِ الله يحفظك، احفظِ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف) ([3]).
وفي رواية: ( احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك،واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً ).
وفي رواية: ( يا فتى ألا أهب لك ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنه قد جف القلـــــم بما هو كائن، واعلــــــم بأن الخلائـــق لو أرادوك بشيء لم يردك الله به لم يقدروا عليه، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) ([4]).
مكانة الحديث:
حديث ابن عباس هذا حديث عظيم – وكل أحاديث الرسول e عظيمة وشريفة - فهو أمر نبوي كريم بحفظ الدين، وبيان لنتيجة ذلك، وهو نصر الله وتأييده وحفظه لمن حفظ دينه، وقد اشتمل هذا الحديث على مسائل عقدية تعد أصولاً عظيمة ، من الإيمان بالله والإخلاص له بالعبادة والتوكل عليه والاسـتعانة به ، والقضاء والقـدر ، والاتبـاع لما جاء به رسوله e.
ومما يدل على مكانته اختيار النووي (ت 676هـ) له أن يكون ضمن الأربعين حديثاً التي جمعها، وكان رقمه التاسع عشر، وذكر سبب اختياره لها بقوله : (( وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثاً …، ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصد صالحة، رضي الله عن قاصديها، وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله، وهي أربعون حديثاً مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين، قد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام، أو ثلثه، أو نحو ذلك… ، وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لمن تدبره )) ([5]).
كما اختاره النووي أيضاً ليكون ضمن كتابه القيم (رياض الصالحين)، ووضعه في الباب الخامس، باب المراقبة، من الكتاب الأول، فكان رقمه الثاني والستين من جملة الأحاديث التي بلغت 1896 حديـــثاً، وقد قال في مقدمتها: (( فرأيت أن أجمع مختصراً من الأحاديث الصحيحة، مشتملاً على ما يكون طريقاً لصاحبه إلى الآخرة، ومحصلاً لآدابه الباطنة والظاهرة، جامعاً للترغيب والترهيب، وسائر أنواع آداب السالكين، من أحاديث الزهد، ورياضات النفوس، وتهذيب الأخلاق، وطهارات القلوب وعلاجها، وصيانة الجوارح، وإزالة اعوجاجها،وغير ذلك من مقاصد العارفين )) ([6]).
وقد وجد هذان الكتابان قبولاً عظيماً عند العلماء، وطلبة العلم بعد النووي، إذ كثر انتشارهما، واعتني بهما بالشرح والتعليق.
وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث خاصة، وشرحوه، وبينوا منزلته، ومن ذلك ما ذكره ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ) حيث قال: (( هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة،وقواعد كلية من أهــم أمــــور الدين، وأجلِّها، حتى قال الإمام أبو الفرج في كتابه (صيد الخاطر): تدبرت هذا الحديث، فأدهشني، وكدت أطيش، فوا أسفي من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه )) ([7]).
وقــال ابن حجــر الهيتمي (ت 974هـ) بأن هذا الحديث اشــتمل على (( هذه الوصايا الخطيرة القـــدر، الجامعــــة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر )) ([8]).
وقال ابن عثيمين: (( فهذا الحديث الذي أوصى به عبد الله بن عباس ينبغي للإنسان أن يكون على ذكر له دائماً، وأن يعتمد على هذه الوصايا النافعة، التي أوصى بها النبي e ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما )) ([9]).
شرح الحديث إجمالاً:
قوله: (كنت خلف النبي e) أي راكباً معه، ورديفه.
قوله: (فقال: يا غلام…) قال له: (يا غلام)؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً، فإن الرسول e توفي وعمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة ([10]).
قوله: (إني أعلمك كلمات) ذكر له ذلك قبل ذكر الكلمات، ليكون ذلك أوقـــع في نفســـه، وجاء بها بصيغة القلّة؛ ليؤذنه أنها قليلة اللفظ؛ فيسهل حفظها([11]).
قوله e : (احفظ الله) أي احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره ونواهيه.
وحفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله.
وأعظم ما يجب حفظه التوحيد، وسلامة العقيدة، فهي الأصل والأساس لبقية أركان الإيمان والإسلام، التي يجب حفظها، بالإيمان بها قولاً وعملاً واعتقاداً، إخلاصاً لله تعالى، واتباعاً لما جاء به رسول الله e.
قال ابن دقيق العيد ( ت 702هـ) في معنى (احفظ الله): (( ومعناه كن مطيعاً لربك، مؤتمراً بأوامره، منتهياً عن نواهيه )) ([12]).
وكذلك من حفظ الله أن يتعلم المسلم من دينه ما يقوّم به عباداته ومعاملاته، ويدعو به إلى الله e.
وقوله: (يحفظك) يعني أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه حفظه الله، في الدنيا من الآفات والمكروهات، وفي الآخرة من أنواع العقوبات، جزاء وفاقاً.
فكلما حفظ الإنسان دين الله حفظه الله.
وحفظ الله لعبده الحافظ لدينه، يكون في أمرين:
الأول: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرّمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفّاه على الإيمان.
هذا هو الأمر الأول، وهو أعظمهما وأشرفهما، وهو أن يحفظ الله عبده من الزيغ والضلال؛ لأن الإنسان كلما اهتدى زاده الله هدى، وكلما ضل ازداد ضلالاً.
الثاني: حفظ الله للعبد في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله([13]).
إذن من حفظ حدود الله حفظه الله في دينه، وفي بدنه وولده وأهله وماله.
قوله e: (احفظ الله تجده تجاهك) أي احفظ الله أيضاً، بحفظ حدوده وحقوقه، وشريعته بالقيام بأمره واجتناب نهيه.
(تجده تجاهك)، وفي رواية: (أمامك)، ومعناهما واحد، أي من حفظ حدود الله وجد الله تجاهـــــه وأمامــــه، في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده، كما قال تعالى: ] إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [ ([14]).
نعم من حفظ الله وجد الله أمامه يدله على كل خير، ويذود عنه كل شر، ولا سيما إذا حفظ الله بالاستعانة به؛ فإن الإنسان إذا استعان بالله، وتوكل على الله كان الله حسبه وكافيه، ومن كان الله حسبه؛ فإنه لا يحتاج إلى أحد بعد الله، فلن يناله سوء. ([15])
يقول ابن دقيق العيد في شرح هذه العبارة: (( أي اعمل له بالطاعة، ولا يراك في مخالفته؛ فإنك تجده تجاهك في الشدائد )) ( [16]).
قوله e: (إذا سألت فاسأل الله) سؤال الله تعالى هو دعاؤه والرغبة إليه، فدل هذا التوجيه النبوي الكريم على أن يسأل الله e، ولا يسأل غيره، فسؤال الله e دون خلقه هو المتعين؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضرر، وجلب المنافع، ودفع المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده.
والله سبحانه يحب أن يُسأل، ويُلَحّ في سؤاله، والمخلوق بخلاف ذلك، يكره أن يُسأل، ويحب أن لا يسأل؛ لعجزه وفقره وحاجت([17]).
قوله e : (وإذا استعنت فاستعن بالله) دل هذا الحديث على أن يستعان بالله دون غيره، وأن لا يعتمد على مخلوق، فالاستعانة هي طلب العون، ولا يطلب العون من أي إنسان (( إلا للضرورة القصوى، ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلة وسبباً، لا ركناً تعتمد عليه … )) ([18]).
يقول ابن رجب : (( وأما الاستعانة بالله e دون غيره من الخلق؛ فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا لله e، فمن أعانه الله فهو المعان…، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات )) ([19]).
قوله e: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). المراد أن كـــل ما يصيب الإنســــان في دنياه، مما يضره أو ينفعه، فهو مقدر عليه، فلا يصيب الإنسان إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً.
فالرسول e يخبر في هذا الحديث أن الأمة لو اجتمعت كلها على نفع أحد لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإذا وقع منهم نفع له فهو من الله تعالى؛ لأنه هو الذي كتبه، وكذلك لو اجتمعوا على أن يضروا أحداً بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه([20]).
ولهذا جاء في الحديث: (إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمـان حتى يعلـم أن ما أصابه لم يكن ليخطئـه، وما أخطـأه لم يكن ليصيبه) ([21]).
قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف) هذا إخبار من الرسول e عن تقدّم كتابة المقادير، وأن ما كتبه الله فقد انتهى ورفع، والصحف جفّت من المداد، ولم يبق مراجعة، فما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك([22]).
قوله e: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) يعني أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه، إذا صبر عليها نصره الله، وجعل في صبره خيراً كثيراً.
يقول صاحب شرح رياض الصالحين في شرح هذا الحديث: (( يعني اعلم علم اليقين أن النصر مع الصبر، فإذا صبرت، وفعلت ما أمرك الله به من وسائل النصر ؛ فإن الله تعالى ينصرك .
والصبر هنا يشمل الصبر على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة )) ([23]).
قوله : (وأن الفرج مع الكرب) أي كلما اشتدت الأمور واكتربت وضاقت؛ فإن الفرج من الله قريب ، يقول ابن حجر الهيتمي : ( … (وأن الفرج) يحصل سريعاً (مع الكرب) فلا دوام للكرب ، وحينئذ فيحسن لمن نزل به أن يكون صابراً، محتسباً، راجياً سرعة الفرج مما نزل به، حسن الظن بمولاه في جميع أموره، فالله e أرحم به من كل راحم، حتى أمه وأبيه، فهو e أرحم الراحمين )) ([24]).
وقوله: (وأن مع العسر يسراً) أي أن كل عسر فإن بعده يسراً، بل إن العسر محفوف بيُسرَيْن، يُسر سابق، ويُسر لاحق، لقوله تعالى: ] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْـــرًا [ ([25]). فالعسر لا يدوم لمن احتسب وصبر، وعلم أن ما أصابه بمقدور الله تعالى، وأنه لا مفر له من ذلك، واستقام كما أمر ربه؛ إخلاصاً وحسن اتباع([26]).
المبحث الأول
في قوله e : ( يا غلام : إني أعلمك كلمات)
مما يؤخذ من هذا الجزء في حديث الرسول e الأمور التالية:
1- وجوب تعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتربيتهم عليها، وعل العلم النافع، ويكون ذلك بأسلوب مختصر، وكلم جامع واضح، فلو تأملت هذا الحديث لوجدته جامعاً لمسائل عقدية كثيرة بأسلوب موجز.
2- الحرص على تربية الناشئة على العلم النافع، ويبدأ بتربيتهم على العقيدة الصافية الخالصة؛ فإن الرسول e وجه هذه الكلمات النافعات إلى ابن عباس وهو صغير؛ إذ قال له : (يا غلام: إني أعلمك كلمات)؛ ليتربى الشاب المسلم على معرفة الله وتوحيده، وحفظ حدوده، يلجأ إلى الله في الرخاء والشدة، ويسأله ويســتعين به، ويتوكل عليه e، فيصبح شجاعاً مقداماً؛ لأنه يعلم أنه لا يملك أحد من البشر له نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله تعالى، ولأن الله معه ينصره ويؤيده وييسر له أموره، ما دام متمسكاً بشرع الله إخلاصاً واتباعاً.
فعلى الجميع الحرص على غرس الإيمان في نفوس الأبناء، وتربيتهم على فهم أصول الإيمان، والعمل بأحكام الإسلام، وتعويدهم على المراقبة والمحاسبة منذ الصغر، قبل أن تصلهم الفلسفات الإلحادية والشبهات البدعية والشهوات المغرضة، وغير ذلك مما تشنه تلك الحملات المسعورة من حرب ضروس ضد شباب الأمة ذكوراً وإناثاً، مرة باسم التثقيف، وباسم التسلية والترفيه مرات أخرى.
3- استحباب تشويق المتعلم، وتهيئته بلطف العبارة، وتنبيهه إلى أهمية ما يلقى إليه، وإشعاره بسهولة حفظه ووعيه ليسهل عليه تلقيه واستيعابه، وبالتالي حفظه ووعيه، وبخاصة المسائل العقدية التي يحتاج إلى دقة في حفظها ونقلها، ويؤخذ هذا من فعل الرسول e عندما قال لابن عباس مقدماً له هذه المسائل: (يا غلام: إني أعلمك كلمات).
4- ومما يؤخذ من هذا الحديث حرص الرسول e على توجيه الأمة، وتنشئة الجيل المسلم على العقيدة الصحيحة والشرع القويم، وقد قال الله تعالى في وصفه e: ] لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [ ([27])، أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته، ويشق عليها، حريص على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم([28])، ولهذا ورد عن أبي ذر e أنه قال: تركنا رسول الله e وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً، قال: فقال رسول الله e: (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم) ([29]).
تفضل هنا اكمل قراءة البحث