8 - التحدي والإفحام
فتلك آفة يعاني منها كثير من المحاورين , فتجد كثيراً منهم يحرص كل الحرص على إفحام صاحبه , وإفحامه , وإسكاته , وربما الإطاحة به .
وهذا الأسلوب لا ينبغي ولو كان بالحجة والبرهان , ذلك أنه يورث التنافر , ويهيج العدواة , ويُبََّضُ صاحبه للآخرين , فلا تلجأ إليه , لأن كسب القلوب أهم من كسب المواقف .
ثم إنك قد تفحم محاورك , وتعجزه عن الجواب , لكنك لا تقنعه .
وقد تسكته بقوة حجتك , ولحن منطقك ومع ذلك لا يُسلَّم لك , لأنك قد أحرجته , وملأت قلبه غيظاً وحنقاً عليك , فيرفض التسليم لك بعاطفته , وإن كان معك بعقله .
ولعل وقع التحدي يكون أشد , وجرحه أغور – إذا كان أمام جمع من الناس . ويزداد الأمر شدة كلما زاد الجمع .
أما إذا تلطفت معه وترفقت به فإنه سينقاد إلى الحق , وسيسلم لك ويذعن إن عاجلاً أو آجلاً .
فإذا أنهيت ما تريد قوله , وأدليت بدليلك فاترك صاحبك وإن لم يوافقك , فهو مع مرور الزمن , وتَخَمُّرِ الفكرة في رأسه سيقتنع برأيك , بل ربما تبناه , ودافع عنه , فالوقت له قيمته , وهو جزء من علاج الأفكار والنفوس .
ومع ذلك يبقى الإفحام هو الأسلوب الأمثل إذا استدعاه المقام , واقتضاه الحال , كما هو الشأن مع من يتعامى عن الحق , ويثير الشبه والأباطيل ,فإفحامه مما يدحض حجته , ويكسر شوكته , ويسقط هيبته .
وكذلك فعل إبراهيم الخليل – عليه السلام – حينما حاجَّه النمرود في ربه الذي آتاه الملك , فأفحمه الخليل وأسكته .
قال – تعالى – ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )البقرة 258
9 - تفخيم النفس
فذلك مما يعاني منه كثير من المحاورين , فتراه يكثر من إدراج ضمير المتكلم ( أنا ) أو ( هذا ما توصلنا إليه ) , ونحو ذلك . وأقبح ما في هذا أن يفخم نفسه أكثر من ذلك كأن يقول ( هذا رأينا ) أو ( هذا ترجيحنا ) , ونحو ذلك من العبارات الفَجَّة , التي تنم عن غرور ونقص .
فهذا كله مجلبة لتباعد الأنفس بعد تقاربها , ولتناكر الأرواح بعد تعارفها , وهو مما يفقد الحوار قيمته وفائدته , وذلك لما يتركه من انطباع سيئ لدى السامع , فالإنسان بطبعه يكره من يتعالى عليه , وينزله منزلة الجاهل .
والبديل الصحيح عن ذلك أن يتحدث المرء مستعملاً الصيغ التي توحي بالتواضع , وعزو العلم لأصحابه , كأن يقول : ويبدوا للدارس كذا وكذا , أو يقول : ولعل الصواب أن يقال كذا وكذا , ونحو ذلك من العبارات المشعرة بالتواضع , واهتضام النفس .
10 - تجاهل اسم المحاور
كأن يقول المرء بين الفينة والأخرى لمحاوره : يا فلان بغير اسمه تجاهلاً له , أو أن يناديه بلقب يكرهه .
ومن ذلك أن يكثر من إيراد ضمير المخاطب في مخاطبة محاوره كأن يقول : أنت , أو ما يشاكله كأن يقول : قلتَ ، أو تكلمتَ , أو أخطأتَ , أو تعجلتَ , أو نحو ذلك .
فهذا مما ينافي الأدب , ويثير المحاور , ويجلب الضغائن .
فالأولى بالمرء أن لا يخاطب محاوره إلا باسمه مقروناً بتفخيمه وتبجيله , وإنزاله المنزلة اللائقة به , وإن كنَّاه أو ناداه بلقب يَسُرُّ فحسن جميل .
وهذا الأدب مقتبس من مثل قوله – تعالى – ( يا أولي الألباب ) , وقوله ( يا أولي الأبصار ) .
ويتأكد هذا الأدب في محاورة الصغير للكبير , والمرؤوس للرئيس ونحو ذلك .
التنازل عن المبدأ الثابت
فهناك من يحاور غيره , فيتنازل له عن مبادئه الثابته عند أدنى شبهة تثار عليه .
وهذا من آفات الحوار , ومما يتنافى مع الحزم .
وليس معنى ذلك أن يصر المرء على لجاجه وعناده بعد أن يتبين له الحق , بل الحكمة والعدل أن يرجع عن رأيه وقوله إذا لاح له وجه الصواب .
وإنما المقصود أن يثبت على مبدئه , ولا يرجع عما عقد عليه قلبه إلا إذا تبين خلاف ذلك بالبرهان الساطع , والدليل القاطع .
قال ابن حزم – رحمه الله – :
( الثبات الذي هو صحة العقد , والثبات الذي هو اللجاج مشتبهان اشتباهاً لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق .
والفرق بينهما أن اللجاج هو ما كان على الباطل , أو ما فعله الفاعل نصراً لما نشب فيه , وقد لاح له فساده , أو لم يَلُح له صوابه ولا فساده , وهذا مذموم , وضده الإنصاف .
وأما الثبات الذي هو صحة العقد فإنما يكون على الحق , أو على ما اعتقده المرء حقاً ما لم يَلُح باطله , وهذا محمود , وضده الاضطراب .
وإنما يلام بعض هذين لأنه ضََّع تدبر ما ثبت عليه , وترك البحث عما التزم أحق هو أم باطل ) .
وقال العقاد :
( العناد , والثبات على الرأي نقيضان , العناد إصرار بغير سبب , أو لسبب ظهر بطلانه .
والثبات إصرار على رأي يؤمن به صاحبه , ولم يظهر له ما يدعوه إلى التحول عنه ) .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم