فيصل بن زامل الشهراني | 15/10/1430
قال الحافظ ابن كثير –رحمه الله- في تفسيره معلّقاً على قوله تعالى: "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعونَ لهم والله عليمٌ بالظالمين"
"و(فيكم سمّاعون لهم)، أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير...(وذكر في تفسير الآية قولاً آخرَ ثمّ عقّب بأنَّ القول الأول أظهرُ في المناسبة بالسياق)."
أحببتُ أن يكون تعليقي على ما حصل (ويحصلُ) من تداعياتٍ وتعليقاتٍ ومواقفَ حول افتتاح الجامعة على هيئة فقراتٍ مرتّبةٍ (بعضها منهجيٌّ كلي والآخرُ جزئيٌ تطبيقي)؛ ليسهل فهمها على النحو الذي أرادهُ كاتبها، ومرادي قولُ الحقِّ سائلاً الله لي ولكم التوفيق والسّداد.
أولاً: حينَ أهملت أمتنا (ونبذت) القرآن العزيزَ وسنّة رسولنا –صلى الله عليه وسلّم- نابَها ما نابها من ضعفٍ وتراجع، ومن إهمال القرآن وإهمال السنّة إهمالُ الألفاظ الشّرعيّة وعدمُ إعمالها على المستويين العلمي والعملي، وكما أنّ سوء استعمال هذه الألفاظ والإسراف فيها واطلاقها على مَنْ لا يستحقها ظلمٌ وجورٌ وتعدٍّ عن الواجب فيها؛ فكذلك تركها وإهمالها تقصيرٌ وخطأٌ يجرُّ أخطاء كثيرة لا تُحصى.
ثانياً: من الألفاظ الشرعية المتواترة في الكتاب والسنّة لفظ "النفاق" و"المنافقين"، وقد نالَ الكلامُ على هذين اللفظين وما تفرّعَ عنهما حيزاً كبيراً من كتاب الله ومن سنّة رسوله – صلى الله عليه وسلّم- على سبيل البيان والتحذير والوصف والتعريف وبيان الحال الدنيوي والمصير الأخروي لهم. ولذا؛ كان من الضروري استدعاء هذا المصطلح وفهمه ومعرفةُ أوصاف أهله والاستنارة بنور الوحيين (ولا نور إلا نورهما) كي يكون التعامل مع هؤلاء المنافقين موافقاً للواجب الشرعي.
ولمّا ترفّعَ (أو تحرّج) بعضُ أهل الخير والصلاح –هداهم الله ووفّقهم- عن استعمال هذا اللفظ على المستوى العلمي، واستعاضوا عنهُ بألفاظٍ أخرى لا إشكال في استعمالها (بعلم وعدل)، ولكنّ الإشكال أن ننسى اللفظ الشرعي ونغفلَ عن مركزيّته وأهميّته ودوره الرئيس في صوابيّة العلم والعمل؛ لأنّهُ لفظٌ شرعي جاءت به الشريعة محدّد المعالم واضح التضاريس، واستحضاره في الحالين العلمي (على مستوى الأبحاث والدراسات) والعملي (وهو الأهم من ناحية إصلاح المجتمع) سيعيننا على حسن التعامل مع ما يحدثُ، ويختصرُ كثيراً من الوقت والجهد والنزاع الناتج عن هذا "الاستكبار المعرفي" المعيب.
ثالثاً: بعدَ استحضار واستيعاب اللفظ الشرعيّ نقومُ باستحضار متعلقاته وما ارتبط به من أوامرَ ونواهٍ، وسأنبّهُ هنا إلى متعلّقٍ من متعلقات اللفظ الذي نحنُ بصدد الكلام عليه.
يقول الله تعالى (في موضعين من كتابه في التوبة74، والتحريم9) "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّم وبئس المصير"
نلحظ في الآية أمراً بـ"الجهاد" وَأمراً بـ"الغلظة" على أهل الكفر والنفاق، وهذا موطنٌ من مواطنَ كثيرةٍ في كتاب الله يقرنُ اللهُ فيه بين الكافرين والمنافقين.
وفي محاولة لفهم المقصود بالجهاد والغلظة على المنافقين فلنتأمل ما قيل في معنى هذه الآية، ومن ذلكَ ما قاله ابن كثير(بعدَ نقله عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- أنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بُعِثَ بأربعة أسياف منها سيفٌ للمنافقين)...قال: وهذا يقتضي أنهم يُجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن مسعود في معنى الجهاد في الآية: يجاهدهم بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكْفَهِرَّ في وجهه (أي وجه المنافق).
وفسّر ابن عباس جهاد المنافقين باللسان، وقال الضحاك: واغلظ على المنافقين بالكلام، وهو مجاهدتهم، وقال الحسن وقتادة: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم.
ثم ختم الحافظ ابن كثير عرضَ الأقوال بقوله: "وقد يُقال إنه لا منافاة بين هذه الأقوال، لأنه تارةً يؤاخذهم بهذا، وتارةً بهذا، بحسب الأحوال، والله أعلم."
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُقِم حد القذف على ابن سلول (وهو الذي تولّى كبره) للمصلحة أو لاعتبارات أخرى.
فإذا جمعنا مع هذه الآية نصوصاً أخرى فيها وصف المؤمنين بأنهم أولياء لإخوانهم من المؤمنين (مع ما في لفظ الولاية من معاني النصرة والمحبة)، ونصوصا أخرى كالأمر بخفض الجناح للمؤمنين، وقوله: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)، وقوله: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) وألحقنا المنافقين بالكفار في المعاملة (في هذه الحالة) بدلالة نصوص أخرى لم تفرّق بين الكفار والمنافقين في الأمر بالجهاد والغلظة.
إذا عرفتَ هذا فتأمّل حال البعض (هداهم الله) حينَ صار عامّة شأنهم في التعامل مع أهل النفاق (المعروفين بحربهم للدين، وبغضهم للخير وأهله، وحبِّهم إشاعةَ الفاحشة) مخالفا للأمر الشرعي إذ لم يتركوا جهادهم والغلظة عليهم وحسب، بل تجاوزوا ذلك إلى المبالغة في الرفق بهم، واللين معهم، وهذا وإن جازَ حيناً فهو غيرُ سائغٍ في كل حين، ولئن جاز مع بعضهم لاعتبارات واضحةٍ فلا يجوز مع عامّة المنافقين بحيث يصبح غالب حال المؤمن مضاداً للأمر الشرعي.
وضمّ بعضهم أصلحهم الله مع الخطيئة الأولى خطيئةً أخرى أشدَّ منها وهي قسوتهم وغلظتهم على بعض أخوانهم من المؤمنين الغيورين وإظهارُ ذلك والمبالغةُ فيه فصرنا لا ندري أيُّ الرجلين (المنافقِ والمؤمنِ) أحقُّ بالغلظة والمجاهدة؟؟!!
وهذه الغلظةُ على الغيورين من المؤمنين والمحتسبين غيرُ مبرّرةٍ وإنْ أمكن تفسيرُها بسبب أخطاء وقعَ فيها بعضهم هدى اللهُ الجميع.
رابعاً: يعلمُ أولئك (المنافقون) وهؤلاء (السمّاعون لهم من أهل الخير) أنّ المُصلحين من أهل الخير لا يعادونَ المعرفةَ، ولا يرفضونَ التقدّم العلمي، بل هو من سبل النهوض بالأمة، وطريقٌ لتقوية ضعفها، وسعيٌ لاستعادتها مكانتها. ومع هذا، فإنّ الثناء على الجامعة (بل والمبالغة فيه أحيانا) دون تنبيهٍ أو تحذير أو نصح لولاة الأمر وعامّة النّاس هو في حقيقة الأمر تلبيسٌ وإلباس للحق بالباطل؛ لأن المصلحة الدنيوية الظنية (التي قد تتخلف) لا تُلغي المفسدة الأخروية التي تأكّدت (بل ظهرَ لنا شئٌ من نتنها).
خامساً: لم يكتفِ بعض أهل الخير هداهم الله بالسكوت عن المنكر بل تجاوز ذلك مثرّباً لائماً إخوانه من الغيورين الذين نصحوا وبيّنوا!!
سادساً: ينبغي في التعامل مع المنافقين وجهادهم أنْ لا نغفل عن كليات القضايا، وأبعاد أطروحاتهم، حتى لا يُجرَّ الغيورون والمحتسبون إلى معارك جانبيّة جزئية، فتُستنفدَ طاقتهم، وتتفرّق كلمتهم.
سابعاً: مما يُحزن ويُشجي ما يراه المرء من اجتماع كلمة المنافقين في نوازل المسائل، ورميهم للغيورين والعلماء عن قوسٍ واحدة "المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض"، مع تفرّق شأن أهل الصلاح والإصلاح واختلاف كلمتهم، وإنْ كانت هناك صورٌ لتوحّد كلمة الغيورين تُسعد القلب وتسرُّ الخاطر.
ثامناً: إنّ المعركة مع المنافقين قديمةٌ متجدّدةٌ طويلةٌ عسيرةٌ، واستلهامُ آليات التعامل مع المنافقين والمفسدين من الكتاب والسنّة هو الطريقُ ولا طريقَ غيرهُ، ولا منهجَ سواه.
والله أعلمُ...