قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59-61]
ونحن في هذا الشهر الكريم شهر مراجعة النفس وحسابها والتوبة إلى الله تعالى، يسرنا أن نقدم لكم هذه الموعظة على لسان شيخنا العلامة د.عائض القرني فما أجمل عذب الكلام حين يخرج من فمه بحسن ترتيب وكذلك النمط الجميل فيقول:
أما والله لو علم الأنـام *** لما خلقوا لما غفلوا وناموا
حياة ثم موت ثم نشـر *** وحشر ثم أهـوال عظـام
قلنا لأحد العلماء النبلاء الأولياء: عظنا موعظة للقلوب موقظة، فإن قلوبنا بالذنوب مريضة وأجنحتنا بالخطايا مهيضة، فنحن قد أدمنا الذنوب وعصينا علام الغيوب، حتى قسمت منا القلوب.
فقال: واحرٌ قلباه، واكرباه، يا ربان، يا ابن آدم تذنب ولست بنادم، الأنبياء يبكون، والصالحون يشكون، تتابع المعاصي وتستهين بالجبار، يغذيك ويعيشك، ويقعدك ويمشيك ثم تنهض على عصيان أمره، مع علو قدره، وعظيم قهره، ويلك هذا الملك كسر ظهور الأكاسرة وقصر بالموت آمال القياصرة وأرغم بالجبروت أنوف الجبابرة، الروح الأمين، وجل مسكين، من خوف القوي المتين، ومحمد يتهجد ويتعبد، وهو الذي دعا كل موحد، ومع هذا يتوعد ويهدد، من ركن لكل كافر وملحد.
أين عقلك يا مغرور، هل نسيت يوم العبور، وساعة المرور، كل طائر من خوفه يخر صريعاً، وكل كاسر يئن من خشيته وجيعاً...
أبو بكر انتفض من خوفه كالعصفور، وصار صدره بالنشيج يفور...
وسقط الفاروق من الخشية على الرمال، حتى حمل على أكتاف الرجال...
وبقي ذو النورين من منظر القبر يبكي يومين...
وهذا علي بن أبي طالب دموعه من التذكير سواكب...
كان عمر بن عبدالعزيز يرتعد ولصدره أزيز ويقول: يا قوم، اذكروا صباح ذلك اليوم...
ويلك والله لو أن القرآن نزل على صخر لتفجر، ولو هبط على حجر لتكسر، و تقرؤه وأنت لاه تتكفر في المنصب والجاه، كأن الليالي لا تطويك والكلام لا يعنيك، تدفن الآباء والأجداد وتفقد الآخرة والأولاد، وأنت لازلت في إصرار وعناد، سبحان الله تغتر بالشباب وتزين الثياب، وتنسى يوم يهال عليك التراب:
أبداً تصر على الذنوب ولا تعي *** وتكثر العصيان منك وتدعي
أبــداً ولا تبكـــــي كأنـك خالـــد*** وأراك بيـن مودع ومشيـع
لا تغفل ذكره، ولا تنس شكره، ولا تأمن مكره، هو الذي عفر بالطين أنف فرعون اللعين، وفرق جنوده أجمعين، مساكن من عصاه قاع قرقر، بعد ما أرسل عليهم الريح الصرصر، إذا غضب دمر المنازل على أهلها، وسوى جبالها بسهلها، شاب رأسك وما خف بأسك، ومازال في المعاصي فأسك، ما لك ما تردك الآيات، ولا تزجرك العظات ولا تتذكر الأموات، مصر مستكبر تركب كل أمر منكر.
سمع ابن وهب آية {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر: 47] فسقط مغشياً عليه في الدار، ثم مات في آخر النهار...
سمع عمر بعض السور فطرح درته وانقعر، فبقي مريضاً شهر وصارت دموعه نهر...
قرأ سفيان سورة الزلزلة فسمع له ولولة، كأنها أصابت مقتله...
بعد الصقور تسقط من السماء...
وأن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء...
وأغمي من الخشية على كثير من العلماء.
كأنك ما سمعت بطور سينا *** ويــــوم صــــار من طـــــولٍ
تخرُّ له الجبابر وهي تبكي *** ســــــــــنــــــيـــــنـــــــــــــا
عراة نحـن فيــــه فيـا لهـولٍ*** ويحصي فيه ربي ما نسينا
ويحك خف ربك وراجع قلبك، واذكر ذنبك، موسى خر من الخوف مغشياً عليه مصعوقاً... ويوشع صار قلبه من الوجل مشقوقاً...
ويعضهم أصبح وجهه من الدموع محروقاً...
كيف تصبح وتمسي والرسل كل يقول نفسي نفسي، أعجبتك الدور والقصور يا مغرور، ونسيت القبور، ويوم النشور، يوم يحصل ما في الصدور.
والذي نفسي بيده ما تساوي الدنيا فتيلة، ولا تعادل في القبر فزع أول ليلة، تطرح فيه وليس لك حيلة، استفق مالك، وراجع أعمالك، وزن أقوالك.
وخطك الشيب، وما تركت العيب، تشاهد المصارع، وتسمع القوارع، وتنهال عليك الفواجع، تنسى الرب، يا ميت القلب، الصحابة من الخوف مرضى، وطلحة ينادي: اللهم خذ من دمي حتى ترض...
ما شاءالله ما تحضر صلاة الفجر، ولا تطمع في الأجر، وجعفر تقطعت بالسيوف أوصاله، وارتفع بالفرح تهليله وابتهاله.
على شفرات السيف مزقت مهجتي *** لترضى وإن ترضى علي كفاني
فلو كتبت منّــــا الدمــــــاء رسالــــــةً *** لخطَّــت بحـب الله كل جناني
ويلك أنت مهموم بالقرش والفرش والكرش وسعد يهتز لموته العرش...
تهاب الوضوء إذا برد الماء، وحنظلة غُسل قتيلاً في السماء...
تعصي حي على الفلاح ومصعب بن عمير قدم صدره للرماح...
ما تهنز فيك ذرة، والموت يناديك في كل يوم مائة مرة، والله لو أن في الخشب قلوب لصاحت، ولو أن للحجارة أرواح لناحت، يحن المنبر للرسول الأزهر، والنبي الأطهر، وأنت ما تحن ولا تئن، ولا يضج بكاؤك ولا يرن.
لو مت لعذرناك، وفي قبرك زرناك، ولكنك حي تأكل وتشرب وتلهو وتلعب، وتغني وتطرب.
من مجلة البشرى ---