وقفةٌ مع الحبيبِ الجفري
د . إبراهيم الريس
جاءني أحدُ طلابي بالكليةِ وهو يبدي أن لديه أمراً لكنهُ مترددٌ في ذكرهِ ... باسطتهُ العبارة ، وآنستهُ الحديث ، فاندفع ليطرح هذا التساؤل الصريح ، قال : سمعتُ ورأيتُ لقاءً مع الحبيب علي الجفري في إحدى القنوات . شدني أسلوبهُ وشياكتهُ وبهرني حديثهُ وابتسامتهُ ... وأسرتني عباراتهُ ثم لما أفقتُ قلتُ لنفسي : ما أجمل حديثه ... لكنه غيرُ صحيحٍ . ثم رجعتُ لنفسي : كيف سحرني بيانهُ ولم أتدبر معاني مقاله ... كان يتحدثُ عن مسألةٍ عقديةٍ هي التوسلُ .
ابتسمت في وجهِ أخي الطالبِ وقلتُ لهُ : كم أنت نبه وحاذقٌ فليس عيباً أن تسمع ... ولكن الخطأ أن يُغْفِلَ المرءٌ منا السؤالَ عما يشكلُ عليه ... وطلبتُ منه أن يوافيني بتسجيلٍ لما ذكره ، فجاءني به في لقاءٍ آخر .
وانتهى موقفي وإياهُ على صفاءٍ ووضوحٍ ... وعلى تجليةِ الأمرِ وإزالةِ الشبهةِ - وللهِ الحمدُ من قبلُ ومن بعدُ - .
من مثلِ هذا الموقفِ كانت مؤثراتٌ كثيرةٌ تتابعُ على عقولِ وأفهامِ كثيرٍ من أسرنا ، من شبابنا وفتياتنا أفكارٌ وطروحاتٌ مبهرةٌ ، ولكنها في كثير من الأحيانِ جوفاء ، خاليةٌ من التأصيلِ الشرعي والصفاء الروحي ...
تلكم ضريبةُ التقنية ، وذلك ثمرةُ الخواءِ الفكري لدى أبناءِ الأمةِ ... وهو أيضاً من إفرازاتِ التربيةِ الهزيلةِ في النفوسِ .
نظرتُ فإذا الموضوعُ واسعٌ ، ما بين طروحاتٍ فكريةٍ صُبغت بالصبغةِ الإسلاميةِ والإسلامُ منها براءٌ ، وما بين جرأة على الإفتاءِ والقولِ في دين اللهِ تعالى بلا علمٍ ، وما بين تعدٍّ على الأصولِ والمسلماتِ باسم الدينِ والسماحةِ والتيسيرِ ، وما بين تمييعٍ لقضايا الإسلام لتتواءم مع ما يريدهُ الغربُ الكافرُ والشرقُ المنحلُ .
صاحبُ الوسامةِ والطرحِ المبهرِ - كما وصف طالبي علي الجفري - شابٌ في مقتبلِ العمرِ ، ما كان لي أن أعرض لتقييمهِ ، ولكن أردتُ التنبيهَ على نماذج من هناتهِ ينبغي أن تُحذرَ وأن ينتبه لها :
على الشبكةِ العنكبوتيةِ موقعٌ خاصٌ به ... وسمٌ ناقعٌ في عسل حديثهُ وعذوبة عبارته ... ليس الخطأ في أن يتقنَ الحديثَ ويجيدَ إيصالَ المعرفةِ للمتلقي ، ولكن الأسى من أنّ هذا الطرح السلس يخالفُ نصوصاً صريحةً في ديننا ، ويناقضُ أسساً متينةً في معتقدنا .
{ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }. أولئك هم أولياءُ اللهِ . ما نرفهم فوق رتبةِ النبوةِ بل ولا ما يوازيها ، ولا نصفهم بما يخالفُ بشريتهم ، ولكن حين تنمق العبارةُ ، ويصاغُ الحديثُ ليقال بأن الولي قد أذن اللهُ لهُ وفوضه في إدارةِ أمورِ الكونِ ، وأن بإمكانهِ الرزق والإحياء والإماتة ، وأن خلقَ طفلٍ من غيرِ أبٍ أمرٌ ممكنٌ على تحرزٍ في القول بهِ ، مع الاتفاقِ على إمكانيتهِ .
حين يقالُ بأن الأولياءَ منهم من يجتمعُ برسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يقظةً ، حين يقالُ مثلُ ذلك ، يقفُ المرءُ فلا ينبهر بحسنِ العبارةِ ، ولكنه ينتصرُ لدينِ اللهِ عز وجل ، فيقولُ : وأنى لك يا علي أن تقولَ ذلك ، وقد رفعت رتبةَ الولي إلى ما يختصُ به الخالقُ جل جلالهُ .
ليس المقامُ للمناقشةِ والتفصيلِ في ذلك ، ولكن المقام هو : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ...
إن أفضلَ الخلقِ نبينا محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلم ، ومع ذلك يقفُ موقفَ الضراعةِ في مكةَ حين آذتهُ قريشٌ ، وفي بدرٍ حين رأى تكالبَ المشركين لحربهِ ، وفي الأحزابِ يسألُ اللهَ جل وعلا أن ينصرَ دينهُ ، وأن يدفعَ الفتنةَ عن أتباعهِ ، ويناجي خالقهُ سبحانهُ فيقولُ : " اللَّهُمَّ إِنَّك إِنْ تُهْلِك هَذِهِ الْعِصَابَةَ فلن تُعْبَد فِي الْأَرْض " .
أليس صلى اللهُ عليه وسلم أعلى من الأولياء ؟ قلماذا لم يكن له التصرفُ في أمورِ الكونِ ؟ ولماذا لم يقل لأعدائهِ : موتوا ... ارجعوا ؟
لِم ضحى بأصحابهِ في معارك وقتال وحروب وغزوات ؟ إن كان له ما لهؤلاءِ الأولياء ؟ ولن يكون الأولياءُ أفضلَ عند اللهِ من أنبيائهِ ورسلهِ .
أيضاً قولهُ : " الولي يمكنهُ أن يخلقَ طفلاً ؟!! هذا من صفاتِ اللهِ جل وعلا ، فاللهُ هو الخالقُ وحدهُ لا شريك لهُ .
واللهُ هو الذي " يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا " .
حقيقةً ... ما أردتُ التفصيلَ في الردِ ، ولكني أقولُ : إن الإسلامَ دينٌ له أصولهُ وقواعدهُ ، دينٌ له أسسٌ واضحةٌ وصريحةٌ ، لا تقبلُ التنازلَ لأهواءٍ ولا المسايرة لقوةٍ ، ولا الاستسلام لوسامةٍ أو جمالِ حديثٍ .
ولهذا فإن أهمَ ما ينبغي أن يؤكدَ عليه في مثلِ هذهِ المسألةِ ، أن يدركَ المسلمُ أنه يقصدُ من وراء السماعِ والتلقي لأمورِ دينهِ عن الناسِ أن يقصدَ الحقَ ومرضاةَ اللهِ تعالى ، ولا يكون القصدُ هو البحث عن الرخصةِ والتنازلِ عن مسلماتٍ من أمرِ دينهِ لأنه سمع من فلانٍ من الناسِ القولَ بذلك ، بل مطلبُ المسلمِ الحقُ حيثُ كان ، حتى يتعبدَ الله َ على صوابٍ ، وحتى لا يكون حاله كحالِ من " ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا " .
المسلمُ يعبدُ الله َ تعالى من واقعِ أصولِ الإسلامِ ، لا من واقعِ من يدَّعي الحديثَ باسمِ الإسلامِ .
إن هنالك وقفات مهمة ينبغي النظرُ فيها والتنبيهُ عليها ، وقفاتٌ نعرف من خلالها دورنا ، والمهام المناطة بنا :
• دورُ الإنسانِ في هذه الحياةِ عبادةُ اللهِ تعالى والمسلمُ يحرصُ على تحقيقِ ذلك وفق شرعِ اللهِ ، ومن أعظمِ الأسسِ التي يقومُ عليها بناءُ هذا الدور النصيحة فالدينُ النصيحةُ ، كذا أجمله النبي صلى اللهُ عليه وسلم ، النصيحةُ ببيانِ الحقِ للناسِ ، وتحذيرهم من طرقِ الضلالِ والغوايةِ .
• دورُ الأمةِ ممثلة في هيئاتها العلميةِ الشرعيةِ أن تضعَ ضوابط وقيود ، تحمي بها حوزةَ الدينِ ولا تكون مستباحةً لكلِ أحدٍ .
• على الجهاتِ الحكوميةِ أن تتبنى مثل ذلك لتوحيدِ صفِ الأمةِ ، ولتحقيقِ العبوديةِ الحقةِ للناسِ ، فيتحققُ من خلال ذلك أن ينصرَ اللهُ الأمةَ ويمكّنَ لها ...
• على وسائلِ الإعلامِ - بفئاتها المختلفةِ - أن تتقي اللهَ فيما تعرضُ ، وأن تحذرَ من أن تسعى لاجتذاب المشاهدين والمتابعين من خلال من يدَّعون العلمَ الشرعي ، فيفتون للناسِ بلا علمٍ ، ويزينون للناسِ أعمالهم وتقصيرهم ، ويجعلون الدينَ مطيةً للمكاسبِ الماديةِ والمغانمِ الدنيويةِ .
أخصُ وسائلَ الإعلامِ ؛ لأنها منبعُ تلك الأصواتِ ، وموردُ تلك الإنحرافاتِ ، ومع الأسف فإنها تبحثُ عمن يلبي احتياجات الناس من التيسيرِ ، دون أن يلبي نداءَ الخالقِ العظيمِ في لزومِ عبادةِ اللهِ تعالى على هدى وعلى صراطٍ مستقيمٍ ، دون اتباعٍ لهوى ولا استجابة لشهوةٍ ، لا مسايرة لواقعٍ ولا انهزامية أمام قوةٍ ضالةٍ ، لا استحياء من بيان وجهِ الحقِ والصوابِ .
• ثم علينا جميعاً أن نسعى لإصلاحِ الأمرِ وإبلاغ النصيحةِ ، وإيضاحِ الحقِ للناسِ .
المصدر : مجلة الأسرة - العدد 126 - رمضان 1424 هـ .