مداراة الناس فن يمكن إتقانه
التعامل مع الناس من قديم الزمن من أصعب الأمور , لكنه في هذا الزمن أصبح أكثر صعوبةً وأكثر تعقيداً . لقد أصبح من السهل جداً أن تخسر إنساناً بكلمة أو في لحظة توتر أو موقف جدال , في حين أن كسب الناس لم يعد هيناً على الإطلاق , إذا كسبنا أناساً يجب ألا نفرط فيهم بسهولة لأنه سيكون من الصعب استعادتهم أو إيجاد بدائل لهم .
ومداراة الناس واجبة للمحافظة عليهم .. والمداراة لا تعني المراءاة كما قد يظن البعض , فالفرق بين الكلمتين كبير .. المراءاة يدخل فيها الكذب والنفاق والخداع , أما المداراة فهي حسن التعامل مع الناس ومسايرتهم بالحُسنى لتجنب الاصطدام بهم .. فلا شيء أغلى من كسب الإنسان وبالتالي تهون الصغائر من أجل الاحتفاظ بحبه أو مودته أو ولائه .
والتعامل مع الناس سياسة من معنى ( يسوس ) وليس من معنى ( يكذب ) لهذا فإن السياسة هي فن التعامل مع الناس والدول علماً بأن التعامل مع الدول أسهل من التعامل مع الناس ؛ لأنك في التعامل مع الدول تبرم اتفاقات ومواثيق لا يمكن الإخلال بها إلا في حالات الغدر والاعتداء , وهذا حالات نادرة , أما في التعامل مع الناس فإنك لا تستطيع إبرام اتفاقات صداقة ومحبة وإخلاص وحسن نية وتسامح مكتوبة على الورق وبشهود !
والتعامل مع الناس دبلوماسية , والدبلوماسية هي السياسة التوفيقية وإصلاح ذات البين باللين ورأب الصدع بالمداراة , أما الدبلوماسية فن تجنب الاصطدام بالآخر بكل الوسائل الممكنة , ومحاولة كسبه أو الوصول معه إلى حل وسط دون خسارته ..
والدبلوماسية أيضاً هي ( شعرة معاوية ) إذا ما بقيت بين طرفين تستوجب من الطرف الأكثر حكمةً وحرصاً ألا يشدها وإذا شدها الطرف الآخر عليه أن يرخي حتى لا تنقطع .
والعلاقات بين الناس كما هي بين الدول تنقطع بسبب الشد الذي يسببه التوتر والإصرار والعناد في الحوار ؛ لأن الحوار إذا سيطرت عليه أجواء التوتر والإصرار والعناد تحول إلى جدل , والجدل يعني أن كل طرف يدور حول نفسه ويصر على رأيه ويحاول أن يفرضه على الآخر لأنه يعتقد أنه على حق , وإذا حدث هذا بين صديق وصديقه أو موظف وزميله أو زوج وزوجته أو بين إنسان وآخر أو حتى بين دولتين فإنه يؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه .
في هذا النوع من الاشتباكات .. اشتباك الجدال يتدخل أعظم إنسان سار على الأرض إلى اليوم , محمد رسـول الله صلى الله عليه وسلم لفض هذا الاشتباك محذراً من خطره معلناً أعظم جائزة يحلم بها مخلوق لمن يبادر بإيقاف هذا الجدال , فيقول :
( أنا زعيم بيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ) [ رواه أبو داود ] .
يتعهد رسول الله ببيت في أطراف الجنة لا لمن يترك الجدال وهو مخطئ , لأن البديهي أن يترك المخطئ الجدال , ولكن لمن يترك الجدال وهو محق , وهذا من أصعب وأشق الأمور على الإنسان أن يترك الجدال وهو يعرف أنه على حق وغيره على خطأ , وفي هذا الموقف يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من درس ...
أولاً : أن الانتصار على النفس الراغبة في الانتصار على الغير ولو بالحق .
ثانياً : يجب أن ننصر فكرة الحق بالرفق واللين , لا بالجدل أو العنف ؛ لأن الجدل يؤدي إلى استخدام القوة في سبيل الانتصار للرأي .
ثالثاً : أننا إذا لم نكسب الناس بالحوار المقنع والمداراة فإننا يجب ألا نخسرهم لأننا إذا خسرناهم فلن نستطيع التحاور معهم , وبالتالي نكون قد قطعنا عنهم طريق الخير الذي نريده لهم .
الحقيقة أنه ليس هناك أجمل ولا أعظم من كسب الناس ومداراتهم والتعامل معهم بالحسنى واللين وعلى قدر عقولهم , فالمؤمن لين هين لكنه فطن , وقد شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنحلة ( .. لا تضع إلا طيباً , وإن وقعت على عودٍ لم تكسره ولم تخدشه ) .
المصدر : التعامل مع النفس والناس كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الدكتور : محمد أبو بكر حميد .