« الدعاة إلى الله » وسامٌ ناله أولئك الذين آثروا مقتضيات دعوتهم على حظوظ أنفسهم فتبوءوا عند الله مكاناً علياً .. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } .
« الدعاة إلى الله » مصابيح هدىً تجردوا من رواسب الحياة الدنيا ، فحلقوا بأرواحهم في الأجواء حتى أضاءوا الحياة بشذى عطرهم ، فاهتدى بنورهم الحائرون ، وسكن بهديهم المترددون .
« الدعوة إلى الله » ليست مجرد وعظٍ للناس وتذكير بفضائل الإسلام وآدابه فحسب ، بل هي حركة علمية وعملية تتميز في مبادئها وأهدافها ومصادرها ، وترتكز على أسس وقواعد علمية مدروسة ، وتنضبط بضوابط شرعية محددة .
الدعوة بحاجة إلى من يفعّلها ويجعلها واقعاً ملموساً في حياة الناس ومعيشتهم ، وهي بحاجة إلى دعاة يحسنون عرض أفكار الإسلام ومبادئه بأسلوب شيق جذاب .. يؤثرون ولا ينفِّرون ، ويوضِّحون ولا يعقّّدون ، ويحسنون ولا يسيئون ، وسيل الدعوة العرمرم ما ترك من ضلالة إلا وحوّلها رحمة وهداية للعالمين .
فما أجمل أن تتسع مدراك الدعاة وفكرهم تجاه الأنام على اختلاف مآربهم ومشاربهم !
وما أجمل أن يستوعبوا من ضاقت صدورهم عن منهج الله ! كأنهم يصعدون في السماء ؛ ليجد الضالون والشاردون فيهم ضالتهم المنشودة ، وأنشودتهم المفقودة .
أوجه لامعة
إن هذا الدين إذا تأمّله المتأمِّل عَلِم أنه صيغ ليكون المتمسّك به داعيةً إليه ، تفيض روحه ونفسه من الخير والأمل ، كما تفيض السماء بالغيث إلى الأرض الجرز فتنبت من كل زوج بهيج .
الداعية قدوة ، وهذه القدوة لا تتجسد في القيم الوضعية التي تعارف عليها أهل مجتمعه ، وإنما يمضي على خطى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في التعليم والتبليغ والهداية والتزكية { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
فهذا العمل ، وهذه الترجمة الواقعية الحية المؤثرة لعلم الأنبياء والعلماء هو الهدف الذي من أجله أمر الله – سبحانه وتعالى – بالتعلم .
فلم يأمر به لنكون أوعية له فقط ؛ وإنما لنكون به انهاراً تفيض بالخير ، فالناس يسمعون بالنهر وعظيم أمنياتهم لو جاوروه ؛ لما فيه من أسباب الحياة بكامل صورها .
فإن كان الدعاة أنهاراً تجري بالخير اهتزت قلوب الناس وربت وأنبتت من كل شيء بهيج ، وإلا كانت الطامة الكبرى ..
إن في الناس أوجهاً لامعات **** تملأ العين زهرة ورواء
ويراها البصير صورة زهر **** لم تهبها الحياة عطراً وماء
زادٌ للمسير
لا بد للدعاة من مشاريع إنتاجية للإيمان تغالب استهلاك حضارة الحياة الدنيا ، وتجعل من الفرد عملاقاً شامخاً ، يرتفع ببصره ، ويعلو بأمله ، ويسمو بواقعه فوق هذه الدنيا التي لا تعدل عند الله جناح بعوضة .
وضعف التربية الإيمانية يعني ضعف المسيرة الدعوية وتراجع أثر وتأثير الداعية في الناس ، وبالتالي انحسار النشاط الدعوي .
رفقاء الطريق
هناك علل وخلفيات سلبية عديدة تقف وراء ضعف الروابط الأخوية وذبول المحبة في الله تعالى .
وقد قرر الله - سبحانه وتعالى - هذا المبدأ في القرآن الكريم بقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ؛ فهذا رابط يجب أن يستشعره كل من اتصف بصفة الإيمان وتمتع بعقيدة الإسلام نحو بقية المسلمين؛ رابط يستجيش عاطفته الدفّاقة تجاه إخوانه المؤمنين في كل عصر ومصر بكل ما تحمله كلمة الأخوة من سلامة صدر ونقاء سريرة، وما يتبعه - بالضرورة - من محبة وانسجام ورحمة ووئام، وما يقتضيه من إغاثة عند العوز، وإعانة عند الحاجة، وتفريج همٍّ عند الضرورة.
وأول أمر قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلي المدينة - بعد بناء المسجد - هو مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، إذ بهذه المؤاخاة شدت لبنات المجتمع الإسلامي إلي بعضها البعض، وارتفع صرح الجماعة المسلمة عالياً متيناً فاستعصى على محاولات الهدم والتخريب التي سعى بها يهود المدينة وأعوانهم من المنافقين والمرجفين، وقد ضربوا في ذلك أروع الأمثلة مما تفيض به كتب التاريخ ، وتزدان به مصنفات التراجم والسير .
وفي التجديد .. إبداع
لم يعد من المجدي أن يمارس الداعية في أي ميدان نشاطه بارتجالية ، وقناعة الدعاة بضرورة الإبداع في الدعوة سبب رئيس من أسباب النجاح ، و ضمانٌ لمستقبل دعوي ناجح ، وتحقيقٌ للإثمار ، ومنح القدرة على التأثير والتفاعل والإيغال بالمبادئ والأفكار في كل وسط وعلى كل صعيد .
حينما يسعى « الدعاة إلى الله » إلى تأمين بدائل دعوية وتربوية للمدعوين مضارعة في رونقها وجاذبيتها ومظهرها ، هادفة وبنّاءة في مادتها ومضمونها ؛ فهذا يقتضي نتيجة ايجابية وهي انشغال المدعوين بأعمال وبرامج إيجابية يخصصوا لها معظم أوقات فراغهم ، وبذلك لا تذهب الطاقات والأوقات في تلبية حاجات طارئة فرضتها الظروف المعيشية أو الاجتماعية أو أعمال تافهة تجعلهم لا ينتجون أي شيء ذي قيمة ؛ مع أن كثيرين منهم قادرون على إنجاز أشياء عظيمة .
على « الدعاة إلى الله » أن يسعوا إلى استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة لتسجيل تلك الخبرات والتجارب وحفظها بين أجيال الدعاة ، سواء كان ذلك عن طريق الوسائل المسموعة أو المرئية أو المقروءة ، واستكتاب الأساتذة والعلماء والدعاة ؛ ليسجّلوا هذه العلوم والخبرات والتجارب ، فيصبح لديهم رصيدٌ من الأفلام والكتب والأشرطة والأقراص المرنة التي يستطيعون استخدامها بسهولةٍ في أيِّ وقتٍ وفي أي مكانٍ بسهولة ، مهما كانت طبيعة الوقت والمكان .
وهذه الوسائل بطبيعة الحال لن تغني عن المعايشة اللصيقة ، ولكن " مالا يُدرك كلّه لا يُترك جُلُّه " ، فنحن في السنوات القليلة الماضية فقدنا كثيراً من العلماء والدعاة ، تخطَّفهم الموت من بين أيدينا - نسأل الله أن يبارك في أعمار البقية - فلِمَ لا ننتهز فرصة وجود البقية ، ونقوم بإجراء الأحاديث معهم واللقاءات ، وحثّهم على استرجاع ذكرياتهم ، وكتابة مذكراتهم ، وتسجيل كلّ هذا ؛ ليكون في متناول الأجيال القادمة ؛ فيظلّ هؤلاء العلماء والدعاة بيننا دائماً بخبراتهم وتجاربهم ، وإن غابوا عنّا بأجسادهم .
واكتشاف المواهب القيادة - أو قل إن شئت الدعوية والتربوية - وهم أولئك الذين يتصفون بصفاتٍ خُلُقية متميزة ، من أنفع الأمور وألصقها بنجاح مسيرة الدعوة - بعد توفيق الله - فإذا ما قُدِّر لهؤلاء أن يتولوا مسؤوليات ما ، نمت مواهبهم أكثر فأكثر .
وحين يحترم الدعاة هذا الإبداع من أولئك الموهوبين ويحفزوا عليه ؛ فإنهم يوجدوا الأطر التي تخدم الدعوة وترعاها .. يظهر المبدعون ، وتسري في الأمة حيوية جديدة .