محاضرة ملقاة في مسجد دَبلِن بإيرلندا
د . أحمد عبد الكريم نجيب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيْداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ الأحزاب : 70 – 71 ] .
أمّا بعد فأيها الحضور الكريم !
أحمد الله تعالى الذي جمعنا معاً في هذا المجلس الطيب ، و أسأله تعالى أن يجعله مجلساً مباركاً ، لا تِرَةَ فيه و لا ندامة ، تتنزل على أهله السكينة ، و تحفهم الملائكة ، و تغشاهم الرحمة ، و يذكرهم الله تعالى فيمن عنده ، كما ثبت الوعد بذلك لقوم يجتمعون في بيت من بيوت الله ، يقرؤون كتاب الله ، و يتدارسونه فيما بينهم ، فيما رواه مسلم و أبو داود و ابن ماجة .
إخوتي و أحبّتي في الله !
{ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيْدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ .
فعليكم بتقوى الله العظيم و طاعته ، و أحذّركم وبال عصيانه و مخالفة أمره ، و أُذَكِّرُكُم و نفسي بأنّ حياتنا قائمةٌ على الابتلاء ، حيث قال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ الإنسان : 2 ] ، و قال سبحانه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } [ البلد : 4 ] ، أي : في مكابدة و معاناة منذ مولده في دارٍ كلّها بلاء و عناء و كدر ، أحسن في وصفها الإمام علي رضي الله عنه لمن سأه عنها : دار أولها بكاء و أوسطها عناء و آخرها فناء .
و وَصَفَها أبو الحسن التهامي فأجاد في قوله :جُبلت على كَدَرٍ و أنت تريدها ***صفواً من الآلام و الأكدارِهذه هي الدنيا الدنيّة ، لم يسلَم منها أحد ، و مع ذلك فلم يكف عن السعي في الاستزادة منها أحد ، و أسعد الناس فيها من قَنِع منها ببُلغة تبلغه غايته ، و لُقمةٍ يسد بها جوعته ، و ليبذل وسعه بعد ذلك في مقارعة البلاء و اللأواء ، في دار الابتلاءِ ؛ سنةِ اللهِ في خلقِه ، و قدره المحتوم الذي لا يتخلّف في عباده .
و مُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِهـا *** مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ
و حديثنا اليوم عن الابتلاء له من المبررات الشيئ الكثير ، فهو ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ، و هو موضوع تمس إليه الحاجة في زمن غربة الدين التي تكاد تطبق على حياة المسلم من كل جهة و جانب ، الغربةِ التي لا يكاد يشعر بها من لم يستشعر عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه دينه و أمته ، و لا من لم يتذوق حلاوة الإيمان في حياته الدنيا .
و للمسلم حلاوتان يذوقهما في حياته معاً ؛ حلاوة الإيمان المترتبة على حبه لله و لرسوله ، و حبه العباد في الله دون سواه ، و كراهيته الكفر بعد الإيمان كما يكره أن يُلقى في النار ، فمن ذاق حلاوة الإيمان المترتبة على هذه الخصال ، كان أهلاً لنيل حلاوة التضحية في سبيل الله ، و بذل الغالي و النفيس من النقير إلى القِطمير في سبيل ، فلا يلوي ذراعه بلاء ، و لا تلين له قناة أمام الشدائد و العناء .
أما من أعرض عن ذكر ربِّه { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ طه : 124 ] .نعم أيها الأحباب الكرام ..
مَن جانَبَ الهدى ، فمصيره إلى الردى ، و حياته ضنكٌ تعُجُّ بالبلاء ، و تصير به و بغيره إلى هلاكٍ و فناء .
و لكي نعطي موضوع حديثنا اليوم بعض حقه - و ليس بمقدورنا إيفاءه الحق كلّه في هذه العُجالة – نركز فيما يسعفنا به الوقت على المحاور التالية :المحور الأول : تحرير معنى البلاء و الابتلاء في اللغة و الاصطلاح :
للبلاء في اللغة معان أشهرها ما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله [ عند تفسير الآية الثانية بعد المائة من سوره الصافات في الجزء الخامس عشر من تفسيره ] .
أولاً : الإنعام ، و هو بذل النعمة للغير ، كما في قوله تعالى : ( إن هذا لهو البلاء المبين ) أي النعمة الظاهرة ؛ يقال : أبلاه الله إبلاء و بلاء إذا أنعم عليه . و قد يقال بلاه ، كما قال زهير :
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
أي : صَنَع بهما خيرَ الصَّنِيع الذي يَبْلُو به عباده .
ثانياً : الاختبار و الامتحان بالخير أو الشر ، كما في قوله تعالى : ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة ) [ الأنبياء : 35 ] ، أي اختباراً و امتحاناً ، يُقال : بلاه يبلوه إذا اختبره ، و لا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه .
و البلاء بالمعنى الثاني مرادف للابتلاء ، فهما بمعنىً ، و هو المقصود فيما نحن بصدده .
قال ابن منظور [ في مادة بَلا من المجلد الرابع عشر من لسان العرب ] : ( و ابْتَلاه الله : امْتَحَنَه ، و الاسم البَلْوَى و البِلْوَةُ و البِلْيَةُ و البَلِيَّةُ و البَلاءُ ، و بُلِيَ بالشيء بَلاءً و ابْتُلِيَ ؛ و البَلاءُ يكون في الخير و الشَّر ، و الجمع : البَلايا .
و يقال : أَبْلاه الله يُبْلِيه إبْلاءً حسناً إذا صنع به صُنْعاً جميلاً.
و بَلاه اللهُ بَلاء وابْتَلاه أي: اختَبره .
و التَّبالي : الاختبار .
و البَلاء : الاختبار ... الخ .
و الذي يهمنا في موضوع بحثنا هذا هو المعنى المتبادر من الابتلاء عند ذكر ما يترض له المؤمن في حياته من سراء و ضراء ، و هو الاختبار و التمحيص المقرون – غالباً – بالشدائد و المحن ، و المصائب و الفتن .المحور الثاني : من حِكَم الابتلاء :
لا شك في مدار الأقدار على حكمة الملك الجبار ، الذي لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ [ الأنبياء : 23 ] و لا في أنّ الحكمة المقدرة في الخلق و التدبير قد تكون مما استأثر الله تعالى بعِلمه ، و قد تكون مما أخبر به في كتابه أو على لسان نبيّه ، و قد تكون مما وفّق من يشاء من عباده لمعرفته باستنباطه أو الاجتهاد في الوقوف عليه ، بإلهام أو دُربةٍ أو غير ذلك .
و من تأمل فيما عاناه ، أو ما وَقَعَت عليه – من معاناة غيره - عيناه من صور الابتلاء ، سيدرك و لا شك بعض الحكم الربانية في ذلك كله ، و من أَجَلّ تلك الحِكَم تمحيص المعبود لعباده { حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [ آل عمران : 173 ] .
فقد يكون الابتلاء لتمحيص الصف المسلم و تنقيته من الدَغَل و الدَخَل و الدُخلاء ، و من صور الابتلاء للتمحيص ما قد تتعرّض إليه الصفوة من أبناء الأمة من الكرب أو الأسر أو النفي أو القتل أو غير ذلك مما هو معروف مشاهد في كل زمان و مكان .
قال تعالى : { وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَ الأَنْفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] .
و قد يكون الابتلاء قصاصاً في الدنيا مما تقترفه أيدي العباد ، و جزاءً لهم بالسيئة على السيئة .
قال تعالى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ } [ سبأ : 17 ] و قال سبحانه : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } [ النساء : 160 ] . و قال أيضاً : { وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
كما قد ينزل البلاء على العباد رفعاً للدرجات ، أو وضعاً للآصار و تكفيراً للخطايا و السيئات .
فمما يكون لرفع درجات العباد ، و يراد لهم الخير به ما رواه البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه ) . أي : يبتليه بالمصائب و المحن ليرفع درجاته و يزيد في حسناتة على ما يكون من صبره و احتسابه .
و مما يكون لتكفير السيئات ما جاء في الحديث المتفق على صحته عند الشيخين أن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه ، حتى الشوكة يُشاكها ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث في فيض القدير : ( ما من مصيبة ) أي : نازلة ، و أصلها الرمي بالسهم ثم استعيرت لما ذكر ( إلا كفر اللّه بها عنه) ذنوبه أي محي خطيئاته بمقابلتها ( حتى الشوكة ) قال القاضي : حتى إما ابتدائية فالجملة بعدها خبرها أو عاطفة ( يشاكها) أي : حتى الشوكة يشاك المسلم بتلك الشوكة أي يجرح بشوكة ، و الشوكة هنا المرة من شاكه ، و لو أراد واحدة النبات قال يشاك بها ، و الدليل على أنها المرة من المصدر جعلها غاية للمصائب .اهـ.
و مما اتفق عليه الشيخان أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : ( ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) .
قال الإمام الغزالي رحمه الله : قال عيسى عليه السلام : لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب و الأمراض عليه لما يرجوه من ذلك من كفارة خطاياه .المحور الثالث : الابتلاء سنة عامة تتفاوت مراتب الناس فيه :
ليس الابتلاء قاصراً على أحد ، و لا ينجو منه بر و لا فاجر ، و إن تباينت صوره ، و تفاوتت مراتبه و مراتب الناس فيه تبعاً لذلك .
و ما ادعى أحدٌ إيماناً بالله و رسوله إلا كان نصيب من الابتلاء كما أخبر بذلك رب الأرض و السماء ، فقال تعالى : { أ لم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1-3 ] .
و لو نجى من هذا الابتلاء أحد لنجى منه الأنبياء و المرسلون ، و من تابعهم من الأولياء و الصالحين .
و لكن ؛ ما من نبي أوتي الكتاب و الحكمة إلا و هو معرض لأصناف البلاء حتى يبلغ رسالة الله إلى الناس ، فالأنبياء أكمل الناس إيماناً و أكثرهم بلاءً ، و ذلك لأن الابتلاء على قدر العطاء ، فقد قال ربنا تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } [ المائدة : 48 ] .
و لو تأملنا ما قصه الله تعالى علينا من معاناة الأنبياء لوجدنا ما يذيب الحديد ، و يشيب الوليد .
ألم تَرَ كيف ابتلى الله أبا البشر آدم عليه السلام بالسراء فكرمه و أسجد له الملائكة ، ثم ابتلاه بالضراء فأهبطه من جنة عجن إلى دار الهم و الغم و الحزن .
و ابتلى نوحاً عليه السلام في أهله و ولده بكفرهم و صدهم عن سبيل الله و إعراضهم عن دعوته إلى دين الله ، و أي ابتلاء أعظم من أن يرى الأب ابنه يغرق أمامه في موج كالجبال مع من كفر من قومه ، و هو لا يملك صرف الضر عنه و لا تحويلاً .
و ابتلي إبراهيم عليه السلام في أبيه الذي كان يصنع أصناماً تعبد من دون الله ، و ابتلي في جسمه فقذف في النار ، و ابتلي في ولده و فلذة كبده فأمر بذبحه ، و ابتلي إلى ذلك بابتلاء من نوع خاص ، و هو تحميله أمانة الإمامة ، حيث قال تعالى : { وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 142 ] .
و يالها من أمانة ثقيلة و ابتلاء عظيم على من تصدر له فأناط بعنقه مسؤولية أمة أو طائفة من العباد .
و ابتُليَ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام بأقوام لا يرعون ذمة و لا حرمة فقتلوا أنبياءهم و حرفوا كتبهم و شرائعهم ، وكان من آخر من قَتَلوا يحيى و زكريا عليهما السلام .
و ابتلي نبي الله يوسف عليه السلام بالطعن في أمانته حينما قال إخوته : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] ، و أُلقِيَ في غيابة الجب كما تلقى الأحجار ، و بيع في سوق النخاسة كما يباع العبيد ، و شري بثمن بخس دراهم معدودة ، و كان من اشتراه فيه من الزاهدين ، و خدم في البيوت كما يخدم العبيد ، و اتهم في عرضه تهمة يتنزه عنها العقلاء فكيف بالأنبياء ؟ و ألقي بسببها في السجن كما يلقى المجرمون ، فلبث فيه بضع سنين
هذه حياة الأنبياء ، و هذه نماذج من ابتلاء الله تعالى لهم ، و من تأمل ما لحقهم من صنوف البلاء لوجد عامته من الابتلاء بالشدائد و المحن ، و لا يخرج عن ذلك إلا صور معدودة جاءت مقرونة بالعز و التمكين كما في قصتي داود و سليمان عليهما و على نبينا الصلاة و السلام .
و من الملاحظ أيضاً ابتلاء الكثيرين منهم في ولده لأن الولد أقرب الناس إلى أبيه ، و مصاب أبيه فيه جلل .
فهذا آدم عليه السلام ؛ يقتل أحد ولديه أخاه في أول جريمة عرفتها البشرية في إراقة الدماء .
و هذا نوح عليه السلام ؛ يحول الموج بينه و بين ولده فيكون الولد من المغرقين على مرأى الأب و مسمعه ، و هو ينهى عن التدخل لإنقاذه و يقال له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] ؛ لكفره و إعراضه عن دين الله .
و هذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يؤمر بذبح ولده البار إسماعيل فيسن شفرته و يتُلُّهُ للجبين امتثالاً لأمر رب العالمين ، فيكاد يذبحه لولا ما تداركه ربه به من الفداء بذبح عظيم .
و هذه أم موسى تبتلى في ابنها موسى الكليم عليه السلام فلا تجد بداً من إلقائه في اليم ، و قلبها يتفطر حزناً عليه .
ثم يبتلى موسى الكليم بقتلة الأنبياء من بني إسرائيل من جهة ، و بالفراعنة الأشداء من جهة أخرى ، فيهدد بالقتل ، و يخرج من بلدته خائفاً يترقب ، و الملأ يأتمرون به ليقتلوه ، و تتوالى عليه الأيام ؛ و هي حبلى بالأحداث و صنوف البلاء بعد بعثته ، من ملاحقة فرعون و ملأه لموسى و من معه إلى اليمّ ، إلى ارتداد قومه و اتخاذهم العجل ، حتى لا تكاد تخلو صفحة من صفحات سيرته التي كادت تذهب بالقرآن لكثرة أحداثها ، من صنف من صنوف الابتلاء .
و تُبتلى الطاهرة البتول مريم العذراء فتضع طفلاً نبياً من غير أب ، و تؤذى بسببه ، فيتسلط عليها اليهود و يتهمونها في عرضها ، و هي الصديقة الطاهرة المطهرة .
و يُبتلي محمد في أبنائه الذكور خاصة فلا يعيش له منهم أحد ، حتى سماه المشركون أبتراً ، و هو صابر محتسب يجود ابنه إبراهيم بنفسه بين يديه الشريفتين ، و هو لا يزيد على أن يقول و عيناه تذرفان الدموع : ( إن العين لتدمع ، و إن القلب ليجزع ، و إنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ) و ( لا نقول إلا ما يرضي ربنا )